القدّيس كيرلّس الكبير له تعليق لطيف على قصّة توبة زكّا، كما ذُكِرَتْ في (لو19: 1-10).. أقتطف منه في هذا المقال بعض الفقرات الجميلة:
كان زكّا رئيسًا للعشّارين، وكان رجلاً مستعبَدًا تمامًا للطمع. كان هدفه الوحيد أن يُزيد أرباحه، لأنّ هذا هو ما كان يفعله العشّارون، مع أنّ بولس يدعو الطمع عبادة أوثان (كو3: 5).
زكّا لم يستمرّ في صفوفهم، بل حسبه المسيح جديرًا بالرحمة، لأنّه هو الذي يُقرِّب البعيدين، ويُعطي نورًا لأولئك الذين في الظُلمة.
تعالوا إذن لنرى كيف كانت طريقة اهتداء زكّا؛ لقد رغب أن يرى يسوع، ولذلك صعد إلى جمّيزة، وهكذا فإنّ بذرة الخلاص نبتت داخله، والمسيح رأى هذه البذرة بعينيّ لاهوته، قبل أن ينظر إلى فوق ليراه بعينيه البشريّتين. وحيث أنّ قصْده بالنسبة لجميع البشر هو أن يخلصوا، فإنّه بسط لطفه إليه وشجّعه وقال له: أسرع وانزل.
إنّ زكّا طلب أن يراه، لكنّ الجمع منعه، ولكن لم يكُن سبب المنع هو الناس، بقدر ما كانت خطاياه هي المانع.. لم يكُن بإمكانه أن يراه بطريقة أخرى إلاّ بأن يرتفع عن الأرض.
المسيح رأى أنّ نفس زكّا كانت مستعدّة جدًّا لأن تختار حياة مقدّسة، ولذلك هداه إلى التقوى.. الرجل قبلَ المسيح بفرح، وكان هذا بداية تحوّله إلى الصلاح، وتخلّيه عن أخطائه السابقة، وأن يستودع نفسه بشجاعة لطريقٍ أفضل.
الذي أسلَمَ نفسه للطمع، وانشغل بالربح، في الحال صار رحيمًا، ومُكرَّسًا لأعمال المحبّة. إنّه يَعِدُ بأن يوزِّع ثروته للمحتاجين، وإنّه سيعوّض كلّ مَن غشّهم، وهذا الذي كان عبدًا للطمع جَعَلَ نفسه فقيرًا، وتوقَّف عن الاهتمام بالأرباح.
لذلك، فليت جموع اليهود لا يتذمّرون، عندما يخَلِّص المسيح الخُطاة؛ بل ليُجيبونا عن هذا: هل يوجَد لديهم أطبّاء ينجحون في جلب الشفاء حينما يفتقدون المرضى؟ فلماذا يلومون المسيح إذن، إذ أنّه عندما كان زكّا ساقطًا ومدفونًا في أمراض روحيّة، أقامه المسيح من حُفَر الهلاك؟!
حيث يدخل المسيح، فبالضرورة يكون هناك خلاص أيضًا. لذلك ليت المسيح يكون فينا نحن أيضًا، وهو يكون فينا عندما نؤمن، لأنّه يسكن في قلوبنا بالإيمان ونكون نحن منزلاً له.
لذلك كان من الأفضل لليهود أن يبتهجوا لأنّ زكّا خلُصَ بطريقة مُدهِشة، لأنّه هو أيضًا حُسِبَ من أبناء إبراهيم، الذين وعدهم الله بالخلاص في المسيح، بواسطة الأنبياء القدّيسين قائلاً: "سوف يأتي مُخلِّص مِن صهيون، وينزع الآثام عن يعقوب. وهذا هو عهدي معهم، عندما أحمل خطاياهم" (إش59: 20-21 سبعينيّة)، وليَطلُب مَن كانوا مفقودين، وليخلّص مَن قد هلكوا، لأنّ هذا هو عمله، وهذا هو ثمر لطفه الإلهي..
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 127) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]