عاطف بشاي
فى ستينيات القرن الماضى- وما أدراك ما الستينيات، تلك الحقبة التى أُطلق عليها الزمن الجميل- كان التلفزيون المصرى تتلألأ شاشته بالكثير من البرامج التلفزيونية، التى تتم فيها استضافة العمالقة من قادة الفكر والأدب والفنون.. ورواد المعرفة والتنوير والثقافة الرفيعة، أمثال د. طه حسين، رائد التنوير العظيم، عميد الأدب العربى.. والمفكر، الشاعر الكبير، «عباس العقاد»، والروائى البديع، صاحب جائزة نوبل، نجيب محفوظ، والقصاص الرائع يوسف إدريس، والشاعر الملهم صلاح عبدالصبور، والأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، والفنانين العظام مثل يوسف وهبى ويوسف شاهين و»عبدالوهاب» وفاتن حمامة وصلاح طاهر وعمر الشريف، تحاورهم مجموعة من المذيعين والمذيعات النبهاء المثقفين، مثل حمدى قنديل وليلى رستم وطارق حبيب وسلوى حجازى وأمانى ناشد، الذين يتمتعون بالذكاء واللباقة والكياسة، ويدركون جيدًا رسالتهم الإعلامية، ومحتواها وأهدافها وحدودها وتأثيرها على المتلقى.
ويتمتعون بأخلاق حميدة تمنعهم من التجاوز والتلاسُن والتشابك اللفظى غير اللائق.. ويتعففون عن صغائر الطرح أو سفاسف المحتوى.. على عكس بعض ما نراه الآن من هتك الأسرار الخاصة للضيف، واستباحة حياته الشخصية، فى نميمة سخيفة وتنمر ذميم وتفاهة فى التناول، الذى لا يطرح قضايا جادة أو معالجة مشاكل اجتماعية وإنسانية معيشة.
ولعل من أشهر حلقات برنامج «نجمك المفضل»، الذى أعده الكاتب الكبير أنيس منصور، وقدمته الإعلامية اللامعة ليلى رستم، تلك الحلقة التى تمت من خلالها استضافة مجموعة من كبار الأدباء فى ندوة تاريخية لمناقشة الدكتور طه حسين فى أمور الفكر والأدب والفلسفة، وضمت نجيب محفوظ ومحمود أمين العالِم ويوسف السباعى وثروت أباظة وأمين يوسف غراب وعبدالرحمن الشرقاوى وكامل زهيرى ود. عبدالرحمن بدوى وعبدالرحمن صدقى.
وقد فجّر د. طه حسين فى الندوة مفاجأة أثارت جدلًا حينما أعلن فى حسم لا يخلو من تهكم أنه لم يفهم «عبقريات العقاد»، وخاصة عبقرية عمر.. وكان قد سبق أن شَنَّ هجومًا عنيفًا على العقاد بعد ظهور كتابه عن أبى نواس، موضحًا رفضه هذا الإصرار من جانب العقاد على الاعتماد فى دراسته للشخصيات على مصطلحات علم التحليل النفسى عند «فرويد» و«يونج» فى عرضه الكثير من جوانب حياة وإبداعات
أبى نواس، ورأى أنه كان من العدل أن ينظر إلى أبى نواس مرة وإلى مجتمعه مرة أخرى.. ويوازن بين الشاعر وبيئته، وبين أسلوبه ولغة عصره.. ولا يقتصر على التفسير النفسى فقط، ويقول د. طه حسين فى هذا السياق إنه يمكن للقارئ أن يضع اسمًا آخر لأبى نواس، أى اسم، لأن العقاد قد انشغل بمرض أبى نواس، وحشد له الدنيا كلها ليؤكد أنه مريض.. مع أن الشاعر لم يكن فى حاجة إلى هذا «الكونسولتو» من الأطباء ليؤكد أنه مريض.. الشاعر معترف، وليس وحيد زمانه فى ذلك.. وغضب العقاد فى ذلك الوقت من نقد طه حسين.. وطلب من أنيس منصور أن ينقل إلى طه حسين أن العقاد فى رأيه أنه لم يخلع العمامة من رأسه. ويقصد بذلك أنه قد سافر إلى فرنسا وتعلم ونقل إلينا الذى تعلمه.. ثم عاد ليرتدى عمامته، بعد أن نسى الذى تعلمه.. ثم لا يريد أحدًا أن يتعلم أو يقول غير الذى قال والذى رأى.
وواصل د. طه حسين الهجوم على العقاد فيما أوردته عن رأيه فى الندوة التى أشرت إليها بعد وفاة العقاد، وقال إن حفيده لم يفهم كتاب عبقرية عمر المقرر على طلبة الثانوية العامة.. وإنه- أى طه حسين- يرصد مكافأة مالية لمَن يفهم هذا الكتاب، أى يفهم أسلوب العقاد فى التفسير النفسى للتاريخ أو التفسير البطولى للفكر الإنسانى كله.
يقول أنيس منصور فى هذا الشأن إن الناس قد تضايقوا من رأى طه حسين لأسباب مختلفة، فبعضهم رأى أنه ليس من اللائق أن يجرح طه حسين كاتبًا كبيرًا بعد وفاته.. وبعضهم قال إن طه حسين لم يكن يستطيع أن يقول ذلك والعقاد حى.. وبعضهم لم يصدق أن طه حسين لم يفهم العبقريات.. وقد نشر «عامر العقاد»، ابن شقيق الأستاذ العقاد، خطابات تؤكد إعجاب طه حسين بعبقريات العقاد.. وقال الفنان التشكيلى الكبير، صديق العقاد، «صلاح طاهر»، لأنيس منصور إنه سمع طه حسين يُبدى إعجابه بعبقرية عمر بالذات فى بيت العقاد بمصر الجديدة.. بل إنه قال كلمة مأثورة فى ذلك هى «إننى عندما قرأت عبقرية عمر أحسست أننى أقرأ عبقرية العقاد»، ولكن طه حسين أصر فى جلساته الخاصة على أن يؤكد أنه لم يفهم عبقرية عمر، وأنها غامضة، بل شديدة الغموض.
يقودنا ما سبق إلى مفارقة مدهشة تتصل بوثيقة، هى ذلك التقرير الذى كتبه طه حسين بشأن ترشيح العقاد لجائزة الدولة التقديرية بتاريخ 3 إبريل سنة 1960، يقول فيها: «إن العقاد لديه قدرة عالية فى فهم النصوص وتعمقها والاطلاع الواسع الغنى.. وكان له فى التراجم طريقة انفرد بها، وأجاد فيها، وهى أنه يتناول العظيم من جانبه الذى كوّن به عبقريته.. وبهذه التراجم استطاع أن يعرض على أبناء هذا الجيل صفحات مشرفة من أمجادنا الخالدة».. إن العقاد، ولا شك، من رسل الحرية فى عصرنا، وهو الذى نادى بالحرية السياسية والحرية الفنية والحرية الفكرية، وقَلَّ أن نجد له بين المعاصرين مَن يساويه.
نقلا عن المصرى اليوم