القس عطية كامل
بعد أن أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في كل تلك الأقطار التي احتلها العرب، لم يجد المسيحيون بدا من ترجمة الكتاب المقدس إليها، وذلك بسبب اجبارهم على التكلم بالعربية. ولقد بدأت مبكرا حركة ترجمة خجولة للأسفار المقدسة للغة العربية، ولكن لم تكن تلك الترجمات وافية بالغرض، وبخاصة أنها لم تكن تترجم عن اللغات الأصلية، بل ترجمت عن السبعينية أو اللاتينية أو السريانية أو القبطية،
كما كانت نسخها نادرة الوجود. وفي يناير 1847م قررت لجنة المرسلين الأمريكية ببيروت، القيام بترجمة الكتاب المقدس كله، من اللغتين العبرية واليونانية للغة العربية، وطلبت من الدكتور القس عالي سميث المرسل الأمريكي، أن يكرس وقته وجهده لهذا العمل الجليل، شرع الدّكتور "سميث" عام 1848 في التّرجمة، يُعاونه أعظم قطبَين من أقطاب اللّغة العربيّة، وهما المعلّم "بطرس البستاني" والشّيخ "ناصيف اليازجي"، وقد انكبّ الثّلاثة على العمل الجليل، بهمّة لا تعرف الملل، كان الدّكتور "سميث" عالِماً ضليعاً في العبريّة واليونانيّة، وكان يُتقن اللّغة العربيّة ويعرفها لفظاً وكتابة، فصحى وعامّيّة، وكان المعلّم "بطرس البستاني" حجّة في اللّغة العربيّة، إلى جانب معرفته عدداً من اللّغات الأخرى، ولكن حدث أن أصيب الدكتور سميث بالسرطان، ومات مبكّرا متأثرا به! وذلك في يناير عام 1857م، وكان قد أتمّ ترجمة أسفار موسى الخمسة، والعهد الجديد كلّه، بالإضافة إلى بعض أجزاء من أسفار الأنبياء، فواصل العمل بعده الدكتور كرنيليوس فان دايك، وكان طبيبا وعالما في اللغات (كان يتقن عشر لغات، خمسا قديمة وخمسا حديثة)، وكان وقتئذ في التاسعة والعشرين من العمر، فراجع كل ما ترجمه الدكتور سميث والمعلم بطرس البستاني مراجعة دقيقة،
يعاونه في ضبط الترجمة الشيخ يوسف الأسير الأزهري(من ناحية النحو فقط). وتقول الموسوعة الحرة عنه:"لاقى كرنيليوس الأمرين في هذه الترجمة، حيث كان يبحث عن أصول الألفاظ في لغاتها الأصلية، ومن ثم تطبيقها وترجمتها إلى الألفاظ المقابلة لها في العربية، وكان يستعين في عمله بعلماء اللغة من النصارى والمسلمين العرب والأجانب. وظل فانديك في هذا العناء حتى أتم الترجمة عام 1864، فبعثه مجمع المرسلين إلى أميريكا ليباشر طبعها، فظل في أميريكا عامين حتى أتم المهمة. ومنذ ظهور ترجمة الإنجيل بالعربية عام 1866، أصبحت نسخه – التي طُبعت حينئذ في خمسين ألف نسخة هي المعتمدة في الكنائس الإنجيلية العربية- بل هي النسخة الأفضل لدى الجميع الآن لدقتها وروعة الصياغة"...ولقد كان موت " الدكتور سميث" المبكر خسارة فادحة، لكنّ الله الّذي سمح بموته، كان قد أعدّ "فان دايك" بديلاً عنه، وكان "فان دايك" يتقن العربيّة شعراً ونثراً، وبدأ أوّلاً في مراجعة جميع الأسفار الّتي ترجمها "سميث" والمعلّم "البستاني"، وانتهى منها عام 1860م، وفي 22 آب عام 1864م،
انتهى من ترجمة باقي العهد القديم، وتمّ طبع الكتاب المقدّس العربي كاملاً في 10 آذار عام 1865م. ولقد قضى "كرنيليوس فان دايك"، بقيّة أيّام حياته في مراجعة التّرجمة، ووضع ملاحظاته عليها، وظلّ يُنقّح ويُصحّح فيها حتّى يوم وفاته في 13 تشرين الثّاني عام 1895م، لذلك عُرفت التّرجمة العربية المشهورة باِسم "ترجمة فان دايك". إنّ كلّ مَن يقرأ الكتاب المقدّس باللّغة العربيّة، يُقدّرها أعظم تقدير خصوصاً من ناحية أمانة المُترجِمين ودقّتهم في التّرجمة، حتّى قال أحدهم: "قد وصَلَت الأمانة بالمُتَرجِمين حدّاً يُظهر الغامض في اللّغة الأصليّة غامضاً في هذه التّرجمة، والعبارة الّتي تحتمل أكثر من معنى في الأصل، تحتمل أكثر من معنى فيها". إنّما خير تقدير لهذه التّرجمة هو ما نراه في آثارها الرّوحيّة، الّتي تظهر في حياة الأفراد والكنائس، فحيثما وصلت أثبتت أنّها "كلمة الله الّتي لا تَرجِع إليه فارغة"، وقد كانت بركة لإنعاش الكنائس، وقيادة كثيرين إلى المسيح "كلمة الله" وما تزال.
القس عطية كامل