نيفين مسعد
ها هو الشتاء يقتربُ ومعه أيضًا تقتربُ نهاية موسم جمع الياسمين، وهو الموسم الذي يدوم لستة شهور في العام من شهر يونيو إلى شهر نوڤمبر. يقول نزار قبّاني في قصيدته الرائعة التي حملَت عنوان طوق الياسمين "وظننتُ أنك تعرفين معنى سوار الياسمين.. يأتي به رجلُ إليكِ.. ظننتُ أنك تُدركين".
كان عاشق نزار في داخل القصيدة يظّن أن الحب والوجدَ يسكنان بالفطرة في قلب زهرة الياسمين، فإن هو أهدى الزهرة لمعشوقته يكون قد أبلغها الرسالة، لكنه أخطأ الظنّ، وكثيرُ من أبطال وبطلات قصائد نزار يخطئون في ظنونهم، فإذا بالمعشوقة مدلّهة في حب شخصٍ آخر ولا تعبأ بانفراط سوار الياسمين. آه من هذه الزهرة البيضاء الوديعة التي هي كعصا الساحرة لا تكاد تلمس مكانًا أو جِيدًا أو مِعصمًا إلا وتركت عليه بعضًا من عطرها الرائق.
لا أروع من مرأى الباعة الجوّالة عند إشارات المرور وقد جعلوا من أعناقهم وأذرعهم شمّاعات تتدلّى منها أطواق الياسمين، يخايلون قائدي السيارات بشذاها الفوّاح فإذا بزجاج السيارات يتهاوى لأسفل ويتكسّر ليجتاح العطرُ أرجاء المكان.
لا بل هناك ما هو أروع من مشهد باعة الياسمين: أن تمارس بنفسك جمع الياسمين. لم يُقدّر لي أن أجمع الياسمين أبدًا، لكني قطفتُ البنفسج وعبّاد الشمس وثمار التوت والتفاح وقرع العسل من مزارع كندا. لم أجمع الياسمين أبدًا، لكني قرأتُ بشغف شديد عن جمع الياسمين، وعن طقوس جمع الياسمين.
يتسلّل جامعو الياسمين لقطفه بعد منتصف الليل وحتى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي فشمس النهار تؤذي حرير الياسمين. هل يوجد في اختلاس زهور الياسمين تحت جناح الظلام مكرُ وتحايُل وخديعةُ؟ لا.. لا يوجد شئ من ذلك، فهذا الأبيض المقطوف يهدي البشر بهجةً ونصاعةً وعطرًا، ويعطي البعض منهم الرزق الحلال.
• • •
تتمتّع قرية شبرا بلولة التابعة لمركز قطور بمحافظة الغربية بشهرةٍ لا مزيد عليها في مجال زراعة الياسمين.
نحتفظ مؤقتًا في ذاكرتنا باسم مركز قطور لحين استخدامه في موضع آخر داخل هذا المقال.
تهدي شبرا بلولة العالم أكثر من نصف إنتاجه من زهرة الياسمين، وتعّد فرنسا هي المستورد الأكبر لعجينة الياسمين. وهذا يُطلعنا على أحد غرائب الحياة ومفارقاتها، ففرنسا التي أتت منها أول شتلة ياسمين لتُزرع في مصر، تُرّدُ الآن إليها بضاعتها أضعافًا مضاعفة لتصنع منها عطورها الغالية جدًا. وذلك أن قرى مركز قطور تنتج في اليوم الواحد حوالي ٢٠ طنًا من الياسمين.
وقرية شبرا بلولة بالذات يتمثّل نشاطها الأساسي في جني الياسمين.. يبيت أهلها ويصحون على منظر حقول الياسمين على مَدد الشوف، ويرتبط معاشهم بحصادها. والاعتياد على الشئ مهما بلغ جماله يزيل مع تكرار التعامل معه رعشة الاكتشاف ونظرة الانبهار ودهشة المرّة الأولى.
ولذلك سمعتُ في أحد الڤيديوهات المسجّلة مع جامعي الياسمين في قرية شبرا بلولة مزارعًا يقول إنه لفرط الاعتياد على قطف الياسمين "زهق منه"، هل يمكن أن يزهق أحد من العَيش مع الياسمين؟ وإن هو زهق منه فإلى أين يذهب بالضبط؟ أفهم أن يعتاد المرء عليه وأقدّر أن يتأقلم معه كحقيقة يومية، أما أن يزهق منه فكيف يكون ذلك؟ إن لهذا النبات الوديع قدرة على امتصاص الغضب وتهدئة الأعصاب، ولذلك يُدخلونه في تصنيع عدد من الأدوية التي تعالج القلق والتوتّر والشّد العصبي، وهذا سبب كاف جدًا لعدم الزهق منه خصوصًا في عصرنا الحالي.
• • •
كنتُ قد طلبتُ الاحتفاظ على جنب باسم مركز قطور، الذي تتبعه قرية شبرا بلولة صاحبة معجزة زراعة الياسمين لحين الحاجة إليه. والآن أستحضر اسم مركز قطور لكن في سياقٍ آخر مختلف تمامًا، وسبحان الله الذي يجمع بين الشئ وضده في آنٍ، ويُخرج من عين المكان نتاج مختلِفُ ألوانه.
تُعّد مدينة قطور واحدة من أشهر المدن المصرية في إنتاج الفسيخ، وهي طبعًا لا تنافِس شُهرة مدينة نبروه صاحبة الصيت الذائع في إنتاج السمك البوري المجفّف والمملّح أو الفسيخ، وهي أيضًا أقل شهرة من مدينة بسيون التي ربما كانت تحتّل المركز الثاني في الترتيب، لكن مدينة قطور تنافس بارتياح على المركز الثالث أو الرابع على الأكثر في إنتاج الفسيخ. وهكذا فكأن مركز قطور الذي يفوح منه عطر الياسمين المهدئ للنفس تنبعث منه أيضًا رائحة الفسيخ التي تهيّج القولون.
• • •
ترجع معرفتي بعلاقة مركز قطور بالفسيخ إلى نحو ثلاثين عامًا، عندما كانت الإعلامية القديرة ثريا حمدان تستعين بالرأي القانوني لوالدي رحمة الله عليه في بعض الأمور التي تخصّ أرضها الزراعية، وكانت هذه الأرض في قطور، وبالتالي فما من مرة ذهب معها والدي في مشوار إلى مدينة قطور إلا وعاد لنا منها بهدية محترمة من الفسيخ ولا أعرف بالضبط لماذا لم يكن يعود لنا والدي من المدينة بحِمل من الياسمين، ربما لم يكن ارتباط قطور بالياسمين معروفًا على نطاق واسع وقتها.. أقول ربما.
عمومًا لا يوجد عَمار بيني وبين الفسيخ، ولم أفهم أبدًا في طفولتي سرّ هذا الطابور الطويل الذي كان يتلوّى أمام محل فسيخ الهلوتي بشارع المنيل الرئيسي، وكنتُ أراقبه من شرفة بيتي ساعة العصاري عندما كنّا نقيم في المنيل. وفي بعض الأحيان كان يحدث تقاطع بين طابور فسخاني الهلوتي والطابور أمام عنتر الكبابجي الشهير ليكتمل بذلك صيد البحر والبر.
وهكذا عرفتُ منذ الصِغر أن الفسيخ طعامُ محبّب لدى قطاع واسع جدًا من المصريين سواء في شمّ النسيم أو في غير شمّ النسيم، وربما كان الحائل الوحيد بينهم وبينه هو ارتفاع أسعاره كجزء من ارتفاع الأسعار.
ففي إطار الإعداد لكتابة هذا المقال رحتُ أبحث عن أشهر محلات الفسيخ في مدينة قطور، وأكثرها يقع في ميدان الساعة بوسط المدينة، ففوجئتُ بأن سعر الكيلو في حدود ثلاثمائة جنيه وهو ما يقترب من سعر كيلو اللحم، لكن استخدامات اللحم أكثر بطبيعة الحال وهو آمن بل ومطلوب للصغار لزوم التزوّد بڤيتامين(د)، بعكس الفسيخ الذي هو طعام للكبار فقط!
• • •
يقول المَثَلُ القديم "بضدّها تتميّز الأشياء"، وتضاد الياسمين والفسيخ لاشك فيه، لكن الرائحتين معًا تصنعان وضعًا شديد الخصوصية والإبهار لمركز ومدينة قطور.
نقلا عن الشروق