ألفي كامل شنّد
يعتبر المؤرخون سقوط القسطنطينية وانهيار الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية التي حكمت أجزاءً واسعةً من بلاد الشرق الأدنى والشرق الأوروبي لما يزيد عن أحد عشر قرنا. أهم حدث في تاريخ أوروبا بشكل عام والتاريخ المسيحي بشكل خاص، ونهاية للعصور الوسطى وبداية العصر الحديث.
سقوط القسطنطنية :
كان غزو القسطنطينية أمنية من أكبر أماني المسلمين. فقد روى أحمد في مسنده والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني عن أبي قبيل قال كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية، فدعا عبد الله بصندوق له حلق قال فأخرج منه كتاباً قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل الرسول أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مدينة هرقل تفتح أولاً، يعني قسطنطينية.ويشرح علماء المسلمين هذا الحديث بالقول:في هذا الحديث النبوي بشارتان لهذه الأمة (ألأسلامية ) بفتح القسطنطينية وقد فتحت، والثانية بفتح روما. رواه أحمد في " المسند " (11/225) ، والحاكم في " المستدرك " (4/555) ، وابن عبد الحكم في " فتوح مصر ".وما أن فتح الشام استقر الحكم العربي الإسلامي به، وصارت حدود الخلافة الإسلامية متماسة مباشرة مع عُمق الدولة البيزنطية، وتوقف الصراع على الخلافة وتولي الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان الحُكم. توالت الحملات العسكرية الإسلامية على مدينة القسطنطينية، بلغت أربعة عشر مرة، خمس حملات من قبل الأمويين واثنان من قبل العباسيين، وخمس حملات من قبل العثمانيين. لكنها لم تتمكن من غزو المدينة العتيدة، وكانت خسارة المسلمين فيها دائمًا كبيرة ، وصمود المدينة يزيد المسلمين رغبة وتصميما في معاودة الغزو .
وبالفعل نجح العثمانيون - وهم في الاصل قبائل من البدو الرعاة المغول .كان يطلق عليهم "سراسين " ويعني لصوص وقطاع الطرق ، أعتنق أغلبهم الاسلام، استوطنوا آسيا الصغرى، المنطقة المسماة "تركستان الشرقية" حيث أقاموا الدولة العثمانية بأسم المؤسس عثمان الأول بن ارطغرل - في عام 145 بقيادة السلطان العثماني محمد الفاتح (1451-1481م) بجيش جرار قوي ومنظم من غزو القسطنطنية بعد حصار بري وبحري دام 53 يوما في وقت كانت الإمبراطورية البيزنطية في أضعف حالاتها، في انتظار رصاصة الرحمة لتلفظ أنفاسها الأخيرة.
لم تستطع أوروبا المسيحية نجدة القسطنطينية لأن السلطة البابوية كانت لاتزال تكابد تداعيات الانقسام الذي تعرضت له مابين أعوام 1305 إلى 1417 ميلادية، وهو ما أسفر عن وجود بابوين ومقرّين للكنيسة الكاثوليكية لأكثر من سبعين سنة. أحدهم في أفينيون جنوب فرنسا. والثاني في روما، (تجدر الإشارة ان الكنيسة الكاثوليكية اليوم تعترف بشرعية كلا البابوين خلال تلك الفترة) . وكل من وفرنسا وإنجلترا في حالة منهكة من حرب المائة عام، واسبانيا مشغولة بالقضاء على مسلمي الأندلس.
أثار سقوط القسطنطينية على أوروبا:
بسقوط القسطنطينية الحصن الذي طالما حمى اوروبا من آسيا وغزوات المسلمين انتاب الملوك و الامراء الاوربيين شعور بالالم والخزي، ايقظهم من غفلتهم، ومما عجل باسدال الستار على حقبة العصور الوسطى، وبدء العصر الحديث. وانهى الصراع بين القسطنطينية الارثوذكسية وروما الكاثوليكية على زعامة العالم المسيحي. فبمجرد أن دخل القائد االعثماني القسطنطينية حوّلوا كاتدرائية «أجيا صوفيا» إلى جامع «آية صوفيا» العظيم، وغير اسمها السلطان الفاتح إلى إسطنبول وتعني دار الإسلام. وانتقل مركز ثقل الأرثوذكسية إلى كنيسة روسيا. واحداث زخمًا ملحوظًا في أوروبا، حيث هروب كثير من العلماء والفنانين والمفكرين من القسطنطينية الى المدن الإيطالية البازغة، وعلى رأسها البندقية وفلورنسا، وأدخلوا معهم كثيرًا من كتب التراثين الهيليني والعربي على حد سواء. والمساهمة في ظهور حركة إعادة النهضة في أوروبا، وهي الحركة التي كانت أساس التطور الفكري والفني، وبزوغ عصر النهضة. وخصب الفكر الارثوذكسي البيزنطي الذي حملوه معهم بذور الدعوة الى الاصلاح الديني. حيث ساهمت أجادتهم اللغات القديمة ومنها اليونانية على التعمق في فهم الكتب المقدسة التي كتبت بها أصلاً وموازنتها مع ما نقل منها إلى اللاتينية، والوقوف على تاريخ الكنيسة الأولى، وعلى ما أقحم في المفاهيم المسيحية مع الزمن. وصار في وسع الكثيرين من غير رجال الإكليروس الاطلاع على حقائق الدين، وتوجيه النقد إلى رؤوس الكنيسة ومحاورتهم في القضايا الروحية وتعاليم الإنجيل، ولاسيما نقاط الخلاف التي كانت بين القسطنطينية وروما، فيما يتعلق بالصور والأيقونات والتماثيل والرهبنة الإلزامية والطوعية وغير ذلك. مهدت إلى ظهور أكثر من حركة إصلاح في اوروبا. من أبرزها ثورة الراهب مارتن لوثر. وفي غضون مدة لا تزيد على 40 عاماً غدا أكثر من نصف سكان أوربا منشقين عن الكنيسة الكاثوليكية. وانضوت شعوب بكاملها تحت لواء الكنائس البروتستانتية أو الإنجيلية، التي تعددت فرقها.
والاهم من ذلك نبّه سقوط القسطنطينية الاوربيين الى الخطر الاسلامي على اوروبا، فسعوا الى معاونة الممالك الاسبانية التي كانت تسعى لاسترداد ما تبقى منها في حوزة المسلمين وطردهم من مملكة غرناطة؛ آخر الممالك الإسلامية (الأندلسية) عام 1492م بعد ان استمر 800عام. والبحث عن طرق بديلة لوصول للقوافل التجارية الأوروبية إلى الشرق، وبدء عصر الاكتشافات، حيث أسفرت رحلة المستكشف البرتغالي كريستوفر كولومبوس طريق جديد يصل إلى الهند ان اكتشف بالصدفة إسبانيولا في أمريكا اللاتينية، واكتشاف الامريكتين، القارة الامريكية الشمالية والقارة الامريكية الجنوبية، واتساع رقعة العالم المسيحي بواسطة العلماء والمبشرين الذين كانت تحملهم السفينة لا الجيوش. والمعارك التي وقعت بين المستوطنين الاوربيين والسكان الاصليين المعروفين بالهنود الحمر، وأدى إلى مقتل الكثيرين من الجانبين ، بدافع الاستحواذ على الأراضي الزراعية ، واختلاف اسلوب المعيشة .
وبعد أن كانت الطرق التجارية من أوروبا تمر بالعالم الإسلامي، أصبحت تذهب عبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا، ومن ثم عبر المحيط الهادئ إلى آسيا.
لم ينس هذا التعويض الجغرافي وتاسياسي والاقتصادي أوروبا المسيحية من مساندة الحضور المسيحي في الشرق. فمع أول تقارب تم بين الملك الفرنسـي فرانسو الأول والسلطان العثماني سليمان القانوني سنة 1535م ، لأجل مساندة فرنسا في الصراع ضد ملك اسبانيا أطلق عليه (حلف الزئبق المدّنس مع الهلال) لامتصاص غضب الاوربيين من تحالف فرنسا مع المسلمين ، وحتى يزكّي نفسه أمام العالم المسيحي ارتدى ثوب المدافع عن المسيحيين في ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، استطاع المبعوث الرسمي للملك الفرنسي أن يحصل من السلطان سليمان القانوني على مرسوم سلطاني، منح فرنسا حقوقاً وأفضليات معينة في الإمبراطورية العثمانية. ومن هذه الحقوق: إقامة حرية التجارة وحرية الدين، وممارسة الشعائر الدينية، على أن يشمل هذا الحق جميع رجال الدين الذين يعتنقون المذهب الكاثوليكي مهما كانت القومية التي يتنمون.
وإذا كانت فرنسا في مقدمة الدول الأوربية التي منحت لها هذه الامتيازات، فإن بقية الدول، لا سيّما العظمى منها، حصلت هي الأخرى، وفي فترات مختلفة، على امتيازات مشابهة. وهكذا ظلّت فرنسا المحامي الوحيد للرعايا الكاثوليك حتى مؤتمر باريس 1856م، الذي طرحت فيه أول مرة قضية تدّخل الدول الاوربية بصورة جماعية لصالح الرعايا المسيحيين في الدولة العثمانية، ثم دخل هذا المبدأ في الممارسة الدولية نهائياً عن طريق مؤتمر برلين (1878م)، الذي ساوى بين الدول الكاثوليكية والبروتستانتية في حقوق الحماية الدينية. وأرسال الإرساليات المسيحية الى يلدان الشام ومصر وشمال أقريقيا لدعم ثبات أهلها على الإيمان المسيحي ، والخروج من عزلتهم ، ورفع المستوى الثقاقي الديني ، والعودة إلى المذهب الكاثوليكي.
أثار سقوط القسطنطينية على الشرق:
بعد استقرار العثمانيين في القسطنطينية واصلوا توسعهم في شرق المتوسط، ومن السيطرة على سورية وبلاد الرافدين والجزيرة العربية برمتها، ووصلوا مصر والسودان ومنها الى شمال افريقيا، وفي شرق اوروبا سيطروا على البلقان ووصلوا الى ابواب فيينا وحاصروها لكن سحقهم ملوك اوروبا بقيادة الكرسي الرسولي وقد اتبع الخلفاء العثمانيين في معاملة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) على تعاليم القرآن الكريم، والسنّة النبوية التي توصي بمنح الحرية الدينية لأهل الكتاب (اليهود والنصارى)، والمحافظة على ممتلكاتهم، شرط أن يمنحوا ولاءهم للدولة الإسلامية، من ناحية، ويدفعوا الجزية من ناحية أخرى.
واقتصر دور دولة الخلافة العثمانية ازاء البلدان الخاضعة لها على الحماية والامن. دون تقديم أي خدمات أخرى، فى المقابل استنزاف موارد تلك الشعوب من خلال فرض ضرائب على أهلها لا تعد ولا تحصى منها ضريبة تسمى ضريبة "الميرى" بنسية 22% لحساب السلطان العثماني، ونقل العمالة الماهرة الى الآستانة. الامر الذي أدى لخراب تلك البلدان. ونظرا لتولى العثمانيين أمر الحماية، لم يكن للشعوب الخاضعة جيوش نظامية. مما جعلها لقمة سائغة للمستعمرين.
وطوال 400 سنة من الحكم العثماني فيما كان يسمى الولايات العربية، كانت تلك المناطق تعاني من الفقر والجهل والتخلف، وتفتقر إلى التعليم ووسائل الرعية الصحية والعلاجية. فضلاً عن غياب أي هيكلية للدولة.
وتعددت تفسيرات الأرثوذكس الشرقيّون والمشرقيّون (وبالأخص الروم) لهذا الحدث. وشعروا أنهم لم يقوموا بواجبهم المسيحي، بل أخطأوا بحق الله. غير أنَّهم رأوا أنَّ مسؤوليَّة الهزيمة تقع في كُلِّ حال على قياداتهم السياسيَّة (والكنسيَّة بنسبةٍ أقل) ورأوه حدثاً مؤلماً لكن لا يؤثر في صحَّة إيمانهم واستمرارهم في المُحافظة عليه.
أما على صعيد العلاقة مع الإسلام. فقد زرع غزو القسطنطينية العداوة وعدم الثقة بين البلدان الارثوذكسية الشرقية في مقدمتها روسيا (روما الارثوذكسية الجديدة) والاتراك العثمانيين ، واندلاع عدد من الحروب بين الجانبين ، فما بين القرنين السادس عشر والعشرين، منذ عام 1568 وحتى عام 1918 وقعت بينهما حروب حول ضم الاراضي ، والسيطرة على البحر الأسود وممراته ، انتصرت روسيا في غالبيتها، وأدت في معظم الأحيان إلى معاهدات قاسية على الدولة العثمانية، كانت من أسباب انهيار الامبرطورية العثمانية ، وقيام الجمهورية التركية عام 1923م.
وحتى يومنا هذا لم تنس الذاكرة الدولية ما فعله العثمانيون من نهب وابادة جماعية القوميات الأخرى في القسطنطينية. فمازال بلدان العالم وبعد مرور قرون، تدين ما أرتكبه العثمانيون من جرائم أبادة ضد الارمن والسريان. وفي 13 مليو 2013 أعلن البابا فرنسيس بابا الفاتيكان أطول قائمة من القديسين، اشتملت على تطويب 800 شخص قتلتهم القوات العثمانية عام 1480 بقطع رؤوسهم في بلدة أوترانتو الإيطالية بعد أن رفضوا التحول للإسلام.
وبعد انقضاء مائة عام على سقوط الإمبراطورية العثمانية، ها هي العثمانية الجدية تعود من جديد ممثلة في سياسات حزب العدالة والتنمية الإسلامي والحركة القومية التركية. وبوصول اوزال ورجب طيب اردوغان للحكم بدأت الخطوات الأولى في مشروع عودة الامبراطورية العثمانية.
ويتخذإردوغان من «تحرير القدس» و«حماية لدين الإسلامي» ونصرة المستضعفين ومساندة السوريين وغيرها. زريعة لوضع قدمه في تلك البلدان. فقام الاتراك بغزو جزيرة قبرص عام 1974 بحجة حماية حقوق القبارصة الاتراك، واحتلال جزء من شمالها يقدر بنحو 36% من أرضيها، والتدخل في الصراع السياسي الداخلي في سوريا وليبيا، والصراع بين أرمينيا وأذربيجان. وإقامة قواعد عسكرية ونشر قوات خارج أرضيه. ويتبع العثمانيون الاتراك الجدد سياسة برجماتية تقوم على انتهاز الازمات الدولية للانقضاض على الفريسة.