د. منى نوال حلمى
«هو» بصمة لا شبيه لها إلا نفسها.
على استحياء، أمد يدى إليه، أطلبه للرقص على أنغام فالس «القصبجى»، قلبى دليلى.
ولأنه «جنتلمان» حقيقى، فإنه يتعفف عن إحراجى، ويعدنى برقصة أخرى قريبة، تجبر بخاطرى.
لا ألومه، فلم يُخلق بعد، الذى يستطيع أن يترك «ليلى» من أجل أى حواء أخرى، خاصة إذا كان «القصبجى»، الجامح الفريد، حاضرًا فى المشهد.
والرجل العاقل لا يترك «ليلى بنت الأكابر»، و«ليلى بنت الأغنياء»، من أجل امرأة مِثلى، لا ترتاح لسيرة الأكابر، ولا تنتمى إلى سلالة الأغنياء.
لكننى متأكدة أنه مثلى، يشعر بأقصى قدر من الألفة، والراحة، مع غير الأكابر، وغير الأغنياء.
ألم يتزوج فى النهاية «ليلى بنت الفقراء»، وكانت رقصة الزفاف مشهدًا حقيقيًّا، ليس تمثيلًا؟.
جعلنى أحب السينما، والفالس، وأحب الرجل الذى يرتدى بدلة ضابط البوليس، والبحرية، الجيش.
يظهر «منورًا»، مرتديًا واحدة من تلك البدلات المشرفة. يقبض على خائنى بلاده، مخلصًا للواجب الذى أقسم عليه، دون الإخلال بواجب قلبه العاشق. وينجح فى المهمتين بجدارة، فيحصل على حب الوطن، وعشق المرأة. ومعهما مساحات أخرى فى قلوبنا، وفى صناعة السينما الفاخرة.
الفن السينمائى قبل إطلالته، «نور». وبعد إطلالته أصبح «الأنور».
وُلد فى «الظاهر» عند خط الفقر. مات فى «استوكهولم» أعلى خط الثراء.
من غرفة سَكنها فوق السُطوح، إلى السكن مع علياء النجوم.
كان يحلم بالسفر إلى «هوليوود»، ولم يعلم أن «القاهرة» قد أنجبته من أجلها.
ارتضى أن يشتغل ك «لبيس» ليوسف وهبى من أجل «غزل» الكاميرات. وهذا ليس مستغربًا من شاب اشتغلت أسرته بالأقمشة. أسرة من سوريا- حلب، انتقلت إلى مصر، أملًا فى تحسين الأحوال المادية. ولم يعلم أحد منهم أنه قرار مصيرى، للابن المتمرد.
الكتابة عن «أنور وجدى»، 11 أكتوبر 1904- 14 مايو 1955، صعبة. لأنه فنان صعب.
كان فنجان القهوة «المضبوط»، الذى تحتاجه السينما المصرية فى أربعينيات القرن الماضى، لكى تعدل مزاجها الرتيب المتعكر.
امتلك المغامرة، الجسارة، خفة الدم، التجديد، الوسامة، المعافرة، الذكاء المثقف، فورة الشباب، الكاريزما، الشغف بالموسيقى والرقص والغناء، والشارب الأنيق الذى يقلده الشباب والرجال.
من كومبارس صامت، على المسرح، (فرقة رمسيس والفرقة القومية)، حيث لفت النظر، خاصة فى مسرحية
«البندقية»، وأدوار صغيرة فى السينما، إلى نقلة نوعية صاروخية إلى النجومية والبطولة المطلقة.
صفق له الجمهور، ومنحه ألقاب:
«الفتى الأول»، «الشرير خفيف الظل»، «الشاب المستهتر الطيب»، «معشوق النساء»، «جان السينما»،
«نجم مصر»، «نجم السينما الأول»، «نجم الشباك»، و«شارلى شابلن المصرى»، بعد أفلامه الثلاثة مع الطفلة «فيروز».. ياسمين، ودهب، وفيروز هانم.
والصغيرة «لبلبة» لم تكن لتثبت موهبتها إلا مع فنان مثل «أنور وجدى»، فى فيلم «أربع بنات وظابط»، الذى كان مع فيلم «الوحش» عام 1954، آخر ما أنتجه.
مع «ليلى مراد»، أنتج الأفلام الغنائية الاستعراضية المبهرة، وسلسلة الأفلام الممتعة، التى حملت اسم «ليلى»، فى أغلبها، مثل ليلى بنت الفقراء، ليلى بنت الأغنياء، ليلى بنت الأكابر.
رغم عمره القصير، فإن «أنور وجدى» ترك كنوزًا إبداعية، متفردة، تُقدر بسبعين فيلمًا، ما بين التمثيل، والتأليف، والإخراج، والإنتاج، تتناول مشكلات اجتماعية، وقضايا ثقافية، فى قوالب درامية متنوعة، ممتعة، مبهجة، مازالت حية تُرزق، بحبنا وتقديرنا، ودهشتنا.
وصل إلى ذروته، فى فيلم «أمير الانتقام»، عام 1950، وجسّد بمهارة وحلاوة دور العاشق الرومانسى، وأيضًا دور المنتقم الجبار.
ستة أفلام له، دخلت فى قائمة أفضل 100 فيلم مصرى من 1896- 1996. منها أربعة أفلام من بطولته، وهى «غَزل البنات» (المركز التاسع)، «أمير الانتقام» (المركز الواحد والستون)، «ريا وسكينة» (المركز السابع والعشرون)، «الوحش» (المركز السبعون). وشارك فى «العزيمة» (المركز الأول)، «غرام وانتقام» (المركز الواحد والتسعون).
من أفلامه: «بين نارين، طلاق سعاد هانم، عنبر، شهداء الغرام، انتصار الشباب، ليلة الجمعة، أحب الغلط، قتلت ولدى، مَن الجانى؟، ليلة الحنة».
وشارك فى أول فيلم سينمائى مصرى، وهو «ليلى فى الظلام» عام 1927.
و«أنور وجدى» هو الفنان الوحيد الذى قام بالبطولة أمام أشهر وأهم مطربات عصره، شادية وصباح
وراقية إبراهيم وأسمهان وليلى مراد وأم كلثوم. ولهذا لُقب أيضًا بـ«عاشق المطربات». وهو أيضًا قام بالتمثيل مع أجمل الراقصات حينها، تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف.
كان مرضه هو الكُلى متعددة الأكياس، ومات بسببه أبوه وإخوته الثلاثة.
أعتقد أن علمه بمأساته كان وراء استعجال الشهرة والنجومية، وإرواء مواهبه المتعددة.
«تعدد الكُلى وتعدد المواهب».. عنوان حكايته.
سيرة «أنور وجدى» تؤكد لى عبثية الحياة. هى لا تكترث بأحوال البشر، نساء ورجالًا. بكل بساطة، وبدون مقدمات، فى لحظة تفاجئهم بقتل الأحلام، وألم الفراق، وأوجاع مرض خبيث، عصِىّ على العلاج.
نقدم أجمل وأبدع ما فينا، و«ترمينا» الحياة خارج الحياة، كأننا سلع استُهلكت، ونفايات لا تُحمد عقباها، يجب إبادتها.
إليه.. فى ذكرى ميلاده الـ119، أهدى «أنور وجدى» حبًّا أقل بكثير من سعادتى بقضاء سهرات المساء معه.
خِتامه شِعر
متى تمتد أصابعك
كثيرًا أوحشتنى
أروع من
أبرع جراح
تستأصل داء الفراق
وتقرر أخيرًا
أن تعانق أزرار الهاتف
مع كل زِر
تخلع قناعًا
وتكشف عن قلبينا السر
مع كل زِر
تتنهد عرقًا شوقًا
تفك شفرة السِحر.
نقلا عن المصرى اليوم