في مثل هذا اليوم 10اكتوبر 1799م..
في الثاني والعشرين من أغسطس ,1799. غادر نابليون بونابرت مصر بعد أن ظل بها عاما. خرج وبقت حملته التي شنت على أرض الكنانة في بداية يوليو 1798. ويقال أنه في مثل هذا اليوم أبحر في الخفاء من الإسكندرية إلى فرنسا علي ظهر سفينة تصحبها ثلاث سفن أخرى وترك مساعده كليبر ليقود الحملة في مصر التي استمرت ثلاث سنوات انتهت بهزيمة الفرنسيين في معركة أبي قير البحرية. فبعد حصار الشواطئ المصرية، تم تحطيم الأسطول الفرنسي وغرق بمجمله، وقام الجنرال الفرنسي مينو بتوقيع اتفاقية التسليم للجيش الإنجليزي وخرج الفرنسيون بكامل عدتهم من مصر على متن السفن الإنجليزية.
نابليون خرج من مصر قبل عامين من نهاية الحملة.. خرج وفي مخيلته أحلام وطموحات وأطماع أخرى يسعى إلى تحقيقها بعيدا عن الشرق الذي بهره. كان خروجه بداية مرحلة جديدة من حياته هدفها إقامة إمبراطوريته الكبرى في أوروبا.
صفحات التاريخ معبأة ومتخمة بالكثير عن حملة نابليون على مصر. مجلدات تروي تفاصيلها وأبعادها ونتائجها. مؤلفات عديدة ظهرت في السنوات الأخيرة، وفي معظمها تتناول انعكاسات الحملة على مصر. فقد كان من نتائج الحملة أنها اصطحبت معها الكثير من العلماء في مختلف المجالات للبحث في البيئة المصرية والشعب المصري والعادات والتقاليد والآثار والمصريات.
كما أحضر الفرنسيون معهم مطبعتين واحدة فرنسية والأخرى عربية وكذلك المترجمين، وكانت المحصلة هي كتاب «وصف مصر» الذي ذكروا فيه باستفاضة كل ما يتعلق بمصر من تاريخ وجغرافيا وتضاريس، مزوداً بالرسوم البيانية الموضحة في عدة مجلدات كبيرة.
ساهم الفرنسيون أيضا في فك رموز اللغة المصرية القديمة التي كانت غامضة بالنسبة للعالم على يد العالم الفرنسي شامبليون بعد اكتشاف حجر رشيد. ولفتت الحملة أنظار العالم الغربي لمصر وموقعها الإستراتيجي وخاصة إنجلترا التي حاولت غزو مصر في حملة فريزر الفاشلة على رشيد في 19 سبتمبر 1807 بعد أن تصدى لها المصريون.
ولكن هناك مؤلفات حديثة عرّت أهداف الحملة الفرنسية.من هذه الكتب «الحداثة والامبريالية» للدكتور أحمد زكريا الشلق أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس الذي خلص إلى أن نابليون لم يستهدف نهضة مصر وتحديثها، وإنما كان يحمل مشروعا استعماريا. وهذه حقيقة تاريخية مهما جامل البعض الحملة وصورها على أنها حملة تنويرية وليست استعمارية. أتى نابليون عام 1798 ليجعل من مصر قاعدة إستراتيجية ونواة للإمبراطورية الفرنسية في الشرق، وبعد فشل حملته التي تركها لمعاونه كليبر في تحقيق أهدافها رحل الفرنسيون عن مصر بعد ثلاث سنوات من الغزو.
ويشير كتاب «الحداثة والامبريالية» إلى أن الحملة الفرنسية كانت جزءا من الاحلام الامبراطورية لنابليون الذي كان مأخوذا بسحر الشرق متأثرا بكتابات المستشرقين ومستخدما لهم أيضا. كان نابليون يتوق إلى الشرق بعد اعجابه بكتابات عالم المصريات والاسلاميات الفرنسي كلود سافاري الذي عاش في مصر وتعلم العربية وترجم القرآن الكريم وكتب خلاصة دراساته في كتابي (حياة محمد) و(رسائل عن مصر).
حيث أمر نابليون بتوزيع الكتاب الاخير الذي صدر عام 1786 على جنوده ليشحذ هممهم ويغريهم بالعالم الذي سوف يغزونه. ويشير المؤلف إلى أن نابليون اعتبر كتاب الفرنسي قسطنطين فولني (رحلة في مصر وسوريا) الذي صدر عام 1787 بمثابة «توراة مغامراته الإسلامية في مصر ومن ثم خص به قادة جنوده» حيث راودته أحلام الاسكندر الأكبر في سعيه للسيطرة على مصر قلب العالم القديم ولم يهدف إلى تحديثها بدليل إعادته المطبعة لبلاده بعد الفشل الذريع والسريع للحملة.
ويقول الدكتور زكريا الشلق إلى إن حملة نابليون كانت فريدة، إذ كانت تضم نحو 175 عالما في الرياضيات وعلم الحيوان والكيمياء والفلك والجغرافيا وهندسة المناجم والهندسة المعمارية والرسم والنحت وموسيقيين وفنيي طباعة ومتخصصين في المتفجرات وأطباء وأدباء كانوا يشكلون كتيبة لغزو معرفي ولم يكونوا أقل أهمية من الجيش نفسه.
ويشير إلى أن نابليون أمر قبل التحرك بشراء مكتبة تضم 550 مؤلفا أساسيا إضافة إلى مكتبتين للتاريخ الطبيعي والفيزياء ومعمل للكيمياء وتم توزيع العلماء على عدة سفن «حتى لا يسلم العلم لمصير سفينة واحدة». ويقول الكتاب إن المصريين لم يفرقوا في عدائهم بين الجنود الغزاة والعلماء المصاحبين لهم.
ويضيف أن كل وسائل المقاومة استخدمت في مناهضة الغزاة حتى أصدر نابليون أوامره باستخدام أعنف الوسائل لسحق الثورة كقصف الجامع الأزهر واحتلاله بالجنود وقتل الثوار وإحراق المنازل. ويشير إلى أن جيش نابليون دمر الكتب والمخطوطات في خزائن الجامع الأزهر بل حاول هدمه وهو سلوك يناقض ادعاء (نابليون) اعتناق الإسلام.
إضاءة
ذهب المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) إلى أن الشرق اختراع أوروبي وان الاستشراق كيان له وجوده النظري والعملي وقد أنشأه من أنشأه واستثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة على مر أجيال عديدة وقد أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق باعتباره مذهبا معرفيا عن الشرق شبكة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين.
ورغم نفي سعيد أن يكون الاستشراق مؤامرة فانه شدد على كونه ظاهرة ثقافية وسياسية وأنه في بعض جوانبه كان متواطئا مع المصالح الاستعمارية ومن الصعب فصل مصالح المستشرق من طرف واحد عن السياق الامبريالي العام الذي بدأ مرحلته العالمية الحديثة بغزو نابليون لمصر.!!