عاطف بشاي
«إنى أقدم لكم أنفسكم».. العبارة السابقة كتبها «د. مصطفى محمود»، في مقدمة كتابه «اعترافات عشاق» (1969)، وهو أحد كتابين، الآخر هو «اعترفوا لى»، جمع فيهما مشاكل القراء التي كانت تُنشر في مجلة «صباح الخير»، ويتولى الرد عليها.. والمقصود بالعبارة أنه ترك مقعد المتكلم، واكتفى بأن يكون مستمعًان فأعطى الميكروفون لكل مَن يريد أن يطلق ضحكة أو يسكب دمعة أو يصرخ صرخة، واكتفى بالتعليق.. وهكذا فإن الحيارَى والمعذبين والمهمومين بقصص معاناتهم الاجتماعية والإنسانية العاطفية والنفسية يلتقون بأنفسهم برسائلهم وأوراقهم وحروفهم وجروحهم ومباهجهم وأفراحهم معه.. متجنبًا في الرد عليهم النصح والإرشاد وإلقاء المواعظ.. كما أنه تحاشى فرض الحلول.. فقد آثر تحليل المشاكل وتعميق جوانبها وإلقاء الضوء عليها ليصبح صاحب المشكلة أقدر على فهم مشكلته وفهم نفسه، وبالتالى أقدر على الاختيار.. وهو يرى أن مجرد الاعتراف والإفشاء والمصارحة والمكاشفة- ولو على الورق- أحيانًا يكون مثل هذا الإفضاء وإفراغ مكنون القلب.. راحة وحلًّا ولحظة صراحة مع النفس قد تشفى من داء عضال تعجز كل الحيل عن مداواته.. والحقيقة أن د. مصطفى محمود بما يملكه من مشرط جراح وتجارب عالِم وعقل فيلسوف وبلاغة وجاذبية أديب وأسلوب رشيق موشى بسخرية لاذعة أو أطروفة محببة يتعانق مع طرحه العميق وحكمته المبهرة ومنطقه المحكم وقدرته الفائقة على الاستنباط وكشف العورات والغوص المدهش في دهاليز وأسرار وأغوار النفس البشرية، ولعله في ذلك كله يُعد من أفضل مَن تصدوا لأوجاع الناس ومشاكلهم في تلك المساحة الرائعة والبراقة في تاريخ الصحافة المصرية.
هو شاب جامعى، في الثلاثين من عمره، يشغل وظيفة محترمة، ومن عائلة كبيرة.. يقول عن نفسه إنه يتمتع بسمعة حسنة، لكنه في الحقيقة لا يستحقها لأنه «لص»، وقصته مع السرقة تبدأ من الصغر، فقد كان وهو تلميذ يهوى سرقة الأقلام من زملائه.. والآن يدخل المطاعم الفاخرة ويأكل وينصرف دون أن يدفع الحساب. ويدخل المحال الراقية، وبطريقة لا شعورية، يجد يده تمتد إلى أشياء، يُسقطها في جيبه، في غفلة من البائع.. وأغرب حادث سرقة أقدم عليه أنه أثناء جلوسه في القطار المتجه إلى الإسكندرية، وفى أحد دواوين الدرجة الأولى، وليس معه إلا فتاة.. انتهز فرصة أنها أغمضت عينيها.. وفى أقل من نصف دقيقة، أخذ حقيبتها، وقفز من القطار قبل طنطا بقليل.. والمدهش أنه أهدى كل الملابس التي بالحقيبة إلى فتاة ساقطة كانت تتردد عليه.
يقول هذا الشاب في رسالته الموجهة إلى د. مصطفى محمود: «عندى من الأقلام والنظارات والكرافتات والشرابات والأحزمة والولاعات ما يكفى لفتح محل.. كلها لَطْش.. لكنى لص شريف، أسرق بحوافز لا إرادية، أرى يدى تمتد من تلقاء نفسها، فتلطش كل ما تراه.. إنى مريض بداء السرقة.. فما الوسيلة التي أعالج بها نفسى؟!، فأنا خائف من أن يُلقى بى في التخشيبة.. وحينئذ لن أخسر سمعتى فحسب.. وإنما سوف أتسبب لأهلى في عار أبدى..».
والمرض النفسى الذي يقصده صاحب الرسالة هو «الكلبتومانيا»، وفيه يجد المريض لذة في فعل السرقة نفسه لا لذة في الحصول على الشىء.. فلو أنك قدمت للمصاب بهذا المرض هدية فلن يسعده ذلك بقدر ما يسعده أن يسرقها خلسة منك.. وهو لا ينتفع بالأشياء التي يسرقها لأنه لا يسرق بدافع الاحتياج، بل كثيرًا ما يكون ثريًّا. هو يصاب بتوتر عنيف وهو يركز نظراته على الشىء الذي يرغب في سرقته، حتى ينْقَضَّ عليه، ويُخفيه، فيُبدد توتره، ويشعر بالارتياح.. وقد قيل إن الملك فاروق كان مصابًا بهذا الداء.. وبدأ سرقة الولاعات وأقلام الحبر والملاعق والشوك، وتطور إلى سرقة التفاتيش والضِّيَاع، وتمادى إلى سرقة النساء.. فقد كانت المرأة لا تحلو في عينيه إلا إذا كانت مرتبطة بآخر.. مثل ناريمان، التي اختطفها من خطيبها، وتزوجها، وصارت ملكة مصر.. والراقصة سامية جمال، التي اختطفها من المطرب والموسيقار «فريد الأطرش».
لكن د. مصطفى محمود في رده على صاحب الرسالة كان له رأى آخر.. فهو يستنكر ما أطلقه القارئ على نفسه بأنه «لص شريف»، حيث لا يأخذ من الأغنياء ليعطى الفقراء.. بل يأخذ ما تمتد له يده إلى فمه وجيبه، وما يزيد على حاجته يوزعه على الساقطات.. وليس على شحاذى السيدة زينب.. وحكاية السرقة اللا شعورية اللا إرادية التي تتم دون تفكير أو تدبير أو إصرار أو ترصد هي مجرد «تبكيشة»، بدليل ما رواه الجانى عن سرقته فتاة القطار.. وكيف أنه فكر ودبر ونفذ كل شىء في نصف دقيقة، فالسرقة هنا ليست عملًا فسيولوجيًّا تلقائيًّا.. وإنما هي عملية معقدة تشترك فيها اليد والذكاء والتدبير والخيال والإرادة.. ويلقى د. مصطفى محمود بقنبلة حينما يقول: «يقولون في علم النفس إن مثل هذه الحالة تنشأ بسبب عقدة في الطفولة.. لكن الحقيقة أن نصف ما يدعيه علم النفس (تبكيش أمريكانى).. والحرامى هو الحرامى، يسرق بعينين مفتوحتين، وليس بالتنويم المغناطيسى.. ولكنها موضة القرن العشرين أن يقتل القاتل ويقول عندى (جنون القتل).. ويسرق السارق ويقول عندى (جنون السرقة).. وقد جاء (فرويد) ليعطى للزانى والقاتل واللص مبررات علمية.. وقد انحسرت الآن الموجة (الفرويدية)، وأصبحت كثير من مسلمات (فرويد) مشكوكًا فيها لأنه يضع الإنسان بعقله الواعى وإرادته الواعية في رقبة الحوافز الباطنية الدقيقة.. وفى يد الشبح الخفى الذي اسمه العقل الباطن يفعل ما يفعله ثم نقول هي حوافز باطنية وعقدة وكومبلكس».
والآن هل تصدق «الكلبتومانيا» و«فرويد» أم «مصطفى محمود»؟!.
نقلا عن المصرى اليوم