مدحت بشاى
ونحن نحتفي باليوبيل الذهبي لحرب أكتوبر المجيدة، أرى بالمناسبة أهمية التوقف عند تفاصيل سيرة ومسيرة الفنان " أحمد نوار" الأستاذ الأكاديمي صاحب المدرسة الإبداعية المتفردة في دنيا التشكيل، وهو المقاتل الوطني القناص الرائع السابق على خط النار في سبعينات القرن الماضي، ورحلة عطاء فنية وفكرية ووطنية امتدت لأكثر من نصف قرن عامرة بالمواقف والرؤى وإطلاق الإبداعات المتنوعة من خلال موقعه الأكاديمي، والمناصب العليا التي شغلها، وعلى جانب أخر الإسهام الوطني العسكري عندما عبر القناة ذهابًا وإيابًا ليفرغ مشاعر الوطني الباسل المنتقم لزملائه الذين استشهدوا في ساحة الشرف.
قد تكون بداية مشوار الربع قرن الأولى مع لوحة "يوم الحساب" مشروع تخرجه عام ١٩٦٧، باعتبارها إحدى علامات التبشير ببدايات وميلاد رؤية مبدع قرر أن تكون البدايات قوية، وقد وصل طول اللوحة لـ٣٠ م مسطح بالقلم الرصاص استغرق رسمها ٦ أشهر.
عن هذه اللوحة قال د. نوار: خلال إجازة عام ١٩٦٤ نظمت كلية الفنون الجميلة رحلة إلى اليونان وإيطاليا وكنت أحد أفرادها لمدة شهر، وعند وصولي لروما رأيت لوحة "يوم القيامة" لمايكل أنجلو بإحدى الكنائس، فانبهرت بها، كما وجدت الكاتب الراحل أنيس منصور يشاهدها فقلت له: الذي خلق مايكل أنجلو خلق ناسًا كثر، فالتفت لي منصور متسائلًا: "وهل تريد أن تفعل مثله؟"، فأجبت بحماس: سأحاول أجتهد.
ويضيف: من هنا بدأت أفكر في تقديم عمل فني كبير، ومنذ السنة الأولى ورؤيتي اللوحة وحتى السنوات الثلاث التي أعددت فيها المشروع قرأت القرآن وبتفاسيره، وكذلك الإنجيل، والتقيت الأنبا شنودة وقرأت الكوميديا الإلهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري إلى أن تشبعت بالموضوع كاملًا.
ويواصل: كنت أسير في الشارع أشعر بالجحيم، انفعلت بالحدث وفي منتصف ١٩٦٦ فكرت في الموضوع بشكل عام وزعت الخيال على "مشهد الحساب والجنة والنار"، وقد ساعدني الخيال والمعلومات التي قرأتها على إنجاز العمل، ومن هنا يعتبر هذه اللوحة من أهم أعماله، رغم تعدد معارضه الخاصة عربيًا ودوليًا وتصميمه للعديد من النصب التذكارية في العديد من دول العالم.
في كل ما أبدع "نوار" يتأكد لنا مدى معاصرة أعماله عبر كل مراحل العطاء، حيث استيعابه لكل الاتجاهات الأوروبية المعاصرة، فإذا أضفنا ذلك الوجد الصوفي الروحي نتابع كيف لا ينصرف الفنان عن الميراث الجمالي من منتجات الحضارة الإسلامية، حيث التركيبات الهندسية الزخرفية البديعة.
ولم يبتعد "نوار" يومًا عن هموم وقضايا الوطن وأحلام مواطنيه، سواء على الجانب الإبداعي، أو عندما انضم لصفوف جيشنا العظيم كمقاتل وفارس صاحب إنجازات عسكرية.. لم تغادر لوحاته قلب الوطن الذي كان يسكن وجدان فناننا الرائع..
ولد أحمد نوار فى ٣ يونيو ١٩٤٥ بمحافظة الغربية، حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة قسم الحفر بالقاهرة ١٩٦٧، ودبلوم فن الجرافيك من أكاديمية سان فرناندو بمدريد ١٩٧٤، كما حصل على دبلوم فى التصوير الجداري من أكاديمية سان فرناندو بمدريد ١٩٧٥، ودرجة الأستاذية في الرسم من أكاديمية سان فرناندو بمدريد المعادلة لدرجة الدكتوراه المصرية عام ١٩٧٥.
تدرج نوار، في عدد من الوظائف منها رئيس قطاع الفنون التشكيلية، ومستشار فني بمجلس الشعب، ورئيس لمجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة، ومستشار فني ببنك مصر.
وقد حصل نوار على عدد كبير من الجوائز، منها الجائزة الأولى في الرسم بالمعرض العام ١٩٨٤، وجائزة الدولة التقديرية في الفنون ٢٠١٣، وجائزة الشراع الذهبي ببينالي الكويت الدولي في فن الحفر عام ١٩٨٧..
حول معرض معارك العبور المجيدة، يدعونا الفنان أحمد نوار ألا نترك خفافيش الظلام تغتال أحلامنا النبيلة والتي جسدها على هيئة حمامات بيضاء ترفرف في كل أرجاء المكان، إنه يدعونا إلى أن نقاوم هذا الكابوس.
وتذكر الناقدة الرائعة "نجوى العشري" أن أحمد نوار خلال بحثه عن تجليات الطاقة الكامنة في ملحمة العبور لا يرسم من أجل التفتيش في وجدانه ووجدان جيل كامل من صناع العبور عن أسباب حدوثه وتمجيد أبطاله، إنما يستشرف بغوصه في تجلياتها آفاق مستقبل قادم يمكن أن يعبر بنا إلى حياة أجمل تحقق إنسانية الإنسان المصري الذي حقق معجزة العبور، ذلك أن نوار كان خارج مصر للدراسة في فترة العبور ولم يستطع العودة للمشاركة في هذه الملحمة، لكنه أطلق لخياله الفني العنان واسترجع المشهد من خلال حصيلة الذاكرة التي امتلأت بالبطولات والتضحيات خلال حرب الاستنزاف، ولاحت له في الأفق فكرة الطاقة الكامنة، فالبشر الذين عبروا وتحدوا التكنولوجيا لم يكونوا بشرًا عاديين، لكنهم كانوا مشحونين بطاقة هائلة تسعى إلى التغيير، وتسعى إلى العبور إلى غد أكثر إنسانية، وتسعى إلى الثأر لأرواح الشهداء، وتسعى إلى رفع العلم حفاظًا على الكرامة الوطنية على أعلى نقطة فوق خط بارليف الذي قيل إنه لا يقهر.
نقلا عن الدستور