عاطف بشاى
بمناسبة مئوية الفنان المبدع الكبير الراحل «توفيق الدقن» (3 مايو 1923- 26 نوفمبر 1988)، أصدر الكاتب الصحفى المتميز «طارق مرسى» كتابًا يلخص سيرته الذاتية والفنية المبهرة التي امتدت منذ الخمسينيات في السينما والمسرح والتلفزيون في سرد رشيق وأسلوب سلس وتوثيق جيد ودقيق.
والحقيقة أن «توفيق الدقن»- بلا شك- هو درة من الدرر الغالية في فن الأداء التمثيلى سواء في الأفلام السينمائية أو على خشبة المسرح أو في المسلسلات التلفزيونية، فقد كان يشع وهجًا براقًا ولافتًا من خلال الشخصيات الدرامية التي يؤديها بمقدرة كبيرة على التجسيد المبهر والتعبير المدهش، حيث يستدعى كل مهارات الإبداع وعصارة تجربته العريضة وكل تعبيرات ملامح وجهه الفياض بالتنوع والتباين في مزيج رائع بين التناول التراجيدى الفاجع وبين الكوميديا الساخرة التي تفجر الضحكات من خلال قدرته المميزة في سبر أغوار الشخصية بأبعادها الاجتماعية والنفسية من دون افتعال أو تزيد، فقد كانت اللزمات اللفظية المختلفة الضاحكة التي اشتهر بها في أحلك المواقف المختلفة مثل: «أحسن من الشرف مفيش»، «ألو يا همبكة»، «الناس بقت كلها فتوات.. أمال مين اللى حينضرب»، «يا آه يا آه».. تعكس نقدًا مريرًا لسلوك الشخصيات المتدنية، وتُسقط الأقنعة عن الوجوه الزائفة.. وقد كان في كثير من أدواره يجسد شخصيات غير سوية أو منحرفة تتصرف بشذوذ وقبح وتتصف بخروجها عن المعتاد والمألوف.. وتحتوى حركتها العامة على عناصر المفاجأة والمباغتة، وتمثل هذه الشخصيات أنماطًا من المجرمين والبلطجية والأشرار والقوادين والمُهمَّشين، ويُضفى عليها ملمحًا طريفًا ينفرد به، ولكنه يبقى في النهاية شاهدًا على الفساد وانهيار القيم داخل ذلك المجتمع المتوحش.
فهو مثلًا في فيلم «القاهرة 30»، المأخوذ عن رواية القاهرة الجديدة «لنجيب محفوظ» وإخراج «صلاح
أبوسيف»، يمثل شخصية رجل فقير مهمش لا يتورع عن المتاجرة بابنته (سعاد حسنى) الحسناء بتزويجها من قواد مقابل المال، والذى تتجاوز في داخله في آن واحد أسباب الحياة الكريمة التي تنقذ أسرته من العوز والجوع.. ويبين خصائص الانحطاط الخلقى.. عناصر الشفقة لتواضع قدره الاجتماعى في مقابل سلوكه الإنسانى الحقير.. كل ذلك في توليفة باهرة من الأداء المتلون، الذي يصبح بموجبه ليس تجسيدًا لفرد، بل للضعف البشرى العام.
وفى فيلم «مراتى مدير عام»، تأليف «سعد الدين وهبة» وإخراج «فطين عبدالوهاب»، يجسد شخصية موظف حكومى أفاك، يسعى إلى الترقى بوسائل غير أخلاقية، ويعكس سلوكًا شائكًا يمثل إحدى سلبيات الشخصية المصرية، التي تعتمد على النميمة والدسيسة وإطلاق الشائعات الكاذبة والتآمر، مستغلًّا في أدائه بالغ الطرافة المفارقات الصارخة وسوء التفاهم وهما من أهم خصائص الدراما الكوميدية.
ويمكننا أن نقول إنه رغم الحشد الكبير لمجموعة الأفلام التي اشترك فيها «توفيق الدقن» من «ابن حميدو» و«المتمردون» و«الأرض» و«ليل وقضبان» و«المذنبون» و«التخشيبة» و«يوميات نائب في الأرياف» إلخ وكذلك المسرحيات، وأهمها «الفرافير» و«سكة السلامة» و«المحروسة».. فقد كانت معظم الشخصيات التي جسدها بالغة القيمة والأهمية والسطوع، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه أسهم بشكل أساسى وبدرجة فائقة في إبراز هذه الأهمية وتلك القيمة، حتى إننا نشعر أن عدم وجوده بها يسبب نقصًا كبيرًا في البناء الدرامى لهذه الأعمال.
هذا، وقد أسعدنى الحظ أن يجسد «توفيق الدقن» دورًا في فيلم «المجنون»، الذي كتبت له السيناريو والحوار وأخرجه «إبراهيم الشقنقيرى»، والذى يُعتبر آخر أدواره السينمائية، ومثل فيه شخصية بعيدة تمامًا عن الشخصيات السائدة في أدواره السابقة.. إنه هنا زوج طيب رعديد بالغ الخنوع والإحساس بالقهر والتهافت والخوف من زوجته المتسلطة، التي ينافقها ويهادنها ويستسلم لرغباتها وأوامرها على الدوام ليتجنب غضبها واستبدادها.. وهو ينصح زوج ابنته (وحيد سيف)، الذي يشكو له سلوكها المعوج.. وأن يتخذ منه قدوة حسنة في ترويض الزوجة والتعامل معها بطاعتها وتدليلها والاستجابة لكل ما تطلبه منه.
وقد أدى الدور ببراعة لافتة، وتمكن مدهش، انتزع من خلاله ضحكات عاصفة من المتلقين، الذين اعتادوا منه أدوارًا مختلفة بشرير أو منحرف.
وفى النهاية، فإن «توفيق الدقن» فنان كبير واستثناء فريد ووجه مضىء ومشرق في تاريخ الفن السينمائى والمسرح المصرى.. وليس مجرد ممثل قدم للسينما العديد من الأدوار الصغيرة المميزة.
نقلا عن المصرى اليوم