د. سامح فوزى
فى الأعوام الثلاثة الماضية من ولاية الرئيس الأمريكى جو بايدن كان هناك حديث مستمر عن أن الولايات المتحدة تريد أن تنفض يدها من الشرق الأوسط، وتركز على مناطق أخرى من العالم حيث صراعها مع روسيا والصين. وقد سعت واشنطن للانسحاب من المنطقة عبر توسيع أرجاء الشراكة الأمنية، والتطبيع بين اسرائيل والدول العربية، وهى الجهود التى أسفرت فى أواخر عهد الرئيس السابق دونالد ترامب عما عٌرف بالاتفاقات الابراهيمية للتطبيع بين اسرائيل وبعض الدول العربية، وحاولت إدارة بايدن تطوير هذه الاتفاقات من خلال ضم السعودية إليها، لما لها من ثقل عربى وإسلامي. وحسب ما نشر خلال الشهور الماضية، فإن القيادة السعودية وضعت جملة من الشروط من أجل التطبيع مع اسرائيل من بينها تقديم شيء ملموس للفلسطينيين، وهو الأمر الذى لم تتضمنه الاتفاقات الإبراهيمية السابقة التى عقدت فى عهد ترامب، الذى كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين اجهاضا للقضية الفلسطينية، وتقويضًا لجهود السلام عبر تمكين الحكومة الاسرائيلية من التوسع فى الاستيطان، والعمل على تصفية القضية الفلسطينية على الأرض.

جاءت الحرب على غزة فى الأيام الماضية لتثبت أن الولايات المتحدة ليس فى مقدورها الانسحاب من الشرق الأوسط، فهى لم تقدم فقط مساعدات عسكرية كثيفة لاسرائيل ، بل حركت أيضا أكثر حاملات الطائرات تقدما إلى شرق البحر المتوسط فى سابقة لم تحدث على هذا النحو من قبل، وزارتل أبيب المسئولون الأمريكيون فى مقدمتهم الرئيس جو بايدن، ووزير خارجيته انتونى بلينكن، مساندين اسرائيل فى اعتدائها على شعب غزة.

بالطبع كان الغرض من التحرك العسكرى الأمريكى تحذير ايران، وحلفائها، وبالأخص حزب الله، من التدخل لمساندة الفصائل الفلسطينية المتحاربة. وهو أمر يرى بعض المحللين أنه لا يشكل قوة ردع كافية لإيران وحلفائها الذين قد يتدخلون عسكريا عند لحظة معينة، ولاسيما أن الجيش الاسرائيلى على وشك اجتياح قطاع غزة بضوء أخضر أمريكى، بهدف إقامة مناطق عازلة فى شمال القطاع، وتصفية حركة حماس.

كيف إذن ستغادر الولايات المتحدة المنطقة؟
ليس فى الإمكان أن يحدث ذلك، فهى على العكس تظل فى المنطقة بكثافة سياسية وعسكرية حول أهم أهدافها وهو حماية أمن إسرائيل، ومادام أن اسرائيل تدعى تعرضها إلى اعتداء غير مسبوق، وتعلن حالة الحرب، فإن واشنطن هبت لنجدتها، وتبنت روايتها، وتجاهلت أنها لا تزال سلطة احتلال تنتهك حقوق الشعب الفلسطينى. أيضا لم تستطع اتفاقات التطبيع الابراهيمية أن تضمن أمن اسرائيل، أو تعزز تعايشها فى الشرق الأوسط، مادام أن القضية الفلسطينية لم تحل. والآن تجد اسرائيل وواشنطن نفسها وجها لوجه مع القضية التى اخفقت فى حلها أو تصفيتها. ولم تستطع إدارة بايدن أن تبلور موقفا أقل انحيازًا مما يجعل منها مظلة حقيقية للسلام، بل منحت اسرائيل تفويضا كاملا لمحاصرة أهل غزة، والاعتداء عليهم، والعمل على تهجيرهم قسريا، وارتكاب مجازر فى حقهم، وتبريرها دوليًا. يحدث ذلك فى الوقت الذى كانت فيه إدارة بايدن على جفاء معلن طيلة الفترة الماضية مع حكومة بنيامين نيتانياهو بسبب السياسات المتطرفة التى تتبناها، وظهر تيار داخل الحزب الديمقراطى أبدى تعاطفا مع الفلسطينيين، وإدانة إسرائيل فى حرب غزة السابقة عام 2021. ورغم كل ذلك، هناك انحياز أعمى من جانب الإدارة الأمريكية لاسرائيل فى الوقت الراهن.

واقع الحال أن السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط باتت تفقد الكثير من المبادئ الأخلاقية فضلا عن أنها لم تعد القوى العظمى المنفردة فى العالم، حيث إن هناك تجمعات أخرى لها مواقفها الأكثر عقلانية مثل الصين وروسيا والدول التى ترتبط بهما، وتطالب بحل الدولتين، الذى كانت تتبناه الولايات المتحدة فى ظل إدراتى باراك أوباما وجو بايدن، ولكن دون بذل أى جهد لتحقيقه. إلى جانب ذلك، فقد كشفت الأيام الماضية أن الانحياز الأوروبى المطلق لإسرائيل الذى ظهر فى الأيام الأولى للحرب خفت بعض الشيء، وهناك الآن أصوات أوروبية تدعو إلى انهاء العمليات العسكرية، وتبدى مخاوفها من انفلات الأوضاع فى المنطقة، وعودة الإرهاب إلى العواصم الأوروبية، واتساع نطاق الهجرة غير الشرعية.هل الإدارة الأمريكية أضعف من أن تمارس ضغوطا على اسرائيل؟ رغم أن الموقف الإسرائيلى عارٍ، مهما حاولت واشنطن وحلفاؤها تبريره، فهو يعتدى على مدنيين عُزل بدعوى أن ذلك رد على العملية العسكرية التى قامت بها حماس فى 7 أكتوبر الماضى، فلماذا إذن تضعف إسرائيل السلطة الفلسطينية، وتعتدى على سكان الضفة الغربية، وتسوغ التحرش بالمقدسات الإسلامية؟.
نقلا عن الاهرام