خالد منتصر
ما حدث مع لاعب الكرة المصرى العالمى محمد صلاح من ردود فعل فى أثناء أحداث غزة، يستحق أن يدرس كنموذج للعقلية العربية التى ما زالت تعيش فى أغلب حالاتها مرحلة السحر والتفكير الخرافى وغياب المنطق ورد الفعل الهستيرى تجاه السلوك والتصرفات مع غياب تحكيم العقل فى أمور يجب أن توزن به لا بالعاطفة الجياشة والهتاف والصراخ والضجيج، محمد صلاح اللاعب المصرى الوحيد الذى فهم روح الغرب واستوعب نواة الحداثة، وأستطيع أن أقولها كحقيقة لا تخمين، فهو ليس لاعب كرة ماهرًا فنانًا فقط، فالمهارة يمتلكها الكثير مثله ممن سافروا من مصر واحترفوا بالخارج، لكن الفرق بين صلاح وبينهم، هو أنه قد استمر، لأنه استوعب، وامتص كورقة النشاف عصارة وشفرة و«باسوورد» النجاح الغربى، العمل بجدية، الاندماج فى تيار الحداثة الذى يمجد الجهد والعقل و«البيرفيكشن» أو الرغبة فى الكمال، لا يوجد معلش أو إلا خمسه فى العمل، بذل كل الطاقة، وأنه فى الإمكان أبدع مما كان.

هذا ما فهمه صلاح ونجح فيه واستوعبه، فصار نجماً عالمياً، وليس رقماً فى بورصة احتراف، صار يغنى باسمه جمهور ليفربول، أصبح سفيراً عالمياً، أيقونة مصرية وعربية بل أوروبية أيضاً، لذلك عندما قرر محمد صلاح أن يتعامل مع أزمة غزة، تعامل من هذا المنطلق، كيف سأتحدث إلى الغرب؟، فنحن قد أدمنَّا الحديث إلى أنفسنا، بنفس اللغة، نجتر أحزاننا وآلامنا، ونخزن غضبنا، ونراكم ردود أفعالنا، وندور فى الساقية نفسها، ونشرب من البئر نفسها، لكن صلاح يعرف أن الغرب له لغة مختلفة، ليست مختلفة فى النحو والتراكيب والنطق، لكنها مختلفة فى العقلية والسياق والدلالة والاستخدام، بدأ صلاح بالتبرع بمبلغ كبير للهلال الأحمر لكى ينقذ الحالة الحادة، الأطفال الذين يموتون نتيجة عدم وجود أدوات طبية أو أدوية، المستشفيات التى تحتاج إلى دعم لكى تستطيع القيام بواجبها، كل هذا يحتاج إلى أموال، قرر صلاح أن يكون المبادر، ويعطى نموذجاً للعطاء والفعل والقدرة على التغيير، لكن العقلية السحرية العربية استمرت فى جلده، لأن تلك العقلية تستمتع بالكلام لا بالفعل.

العقلية السحرية ظلت سنين تتخيل أن الأدعية على العدو من فوق المنابر هى النصر، أو بديل النصر، يخرج المواطن العربى من المسجد بعد أن تولى الخطيب عنه مهمة الهجوم بأقسى الكلمات ضد العدو، يخرج وهو على يقين بأنه انتصر، فكيف سيقنعه محمد صلاح بأنه لابد من فعل، ولابد من تبرع؟، لأن هناك حالات عاجلة لن تشفى جروحها بالكلمات، ولن تعود أوصالها المبتورة بالأدعية والتمتمات، ولن يوقف نزيف دمائها هتافات أو مظاهرات، لم ولن يقتنع العقل السحرى الخرافى الشفاهى إلا بالكلمات الملتهبة والخطب الرنانة والتشنجات الفتاكة ، أهم عضو عند أصحاب هذا التفكير هو الحنجرة لا العقل، نظرية التطور عندهم هى أن الانسان أصله أحبال صوتية!، وعندما تكلم صلاح فى فيديو شاهده حتى لحظة كتابة هذا المقال أكثر من ١٥٠ مليون مشاهد، لم يعجب أصحاب هذه العقلية السحرية الأسطورية التى ما زالت تعيش بنفس منطق رجل الكهف الذى يفسر الرعد والبرق بالقوى الخفية، ويحاربها بالتمتمات والتعاويذ، أبدى البعض الامتعاض، وتساءلوا "بعد إيه؟"، إنه قد تأخر!! دراسة رد فعل الإنجليز والمجتمع الغربى تحتاج إلى بعض التأنى والهدوء حتى تصل إلى هدفك، البيان أو الفيديو الذى قاله صلاح مكتوب بميزان الذهب، ليس فيه الحنجورى المتشنج الذى يغازل غدة النرجسية عندنا، ولكنه يخاطب غدة العقل والشك عندهم، ماذا تجدى الشتائم معهم؟ لو سببناهم ألف سنة، ما النتيجة؟ فهم هذا لاعبنا العاقل الواعى، كانت لغة جسده محايدة، فقالوا ذكاء اصطناعى، لم يشتم فقالوا برود وحياد ليس وقته، تحدث باللغة الإنجليزية، فقالوا مخارج ألفاظه ليست سليمة!!! قال كل الأرواح مقدسة، غضبوا وقالوا قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار، ولا توجد مساواة فى الأرواح، ولا قدسية إلا لأرواحنا نحن خير أمة، وهكذا ظلت ماكينة النقد العربية تهرس النجم، وكرباجها الذى لا يعجبه العجب يدميه، رغم أن ما قاله وما فعله وجد الصدى وحقق رد الفعل المطلوب، ولكنها العقلية السحرية التى لو كان صلاح تشرب قاموسها واغترف من مفاهيمها، لظل على محطة قطار قريته ينتظر الفرج!، محمد صلاح يا سادة لم يهاجر من قريته فقط، بل هاجر وهجر ثقافة خرافية وعقلية سحرية أسطورية تعشق التشنج والهستيريا والبلاغة العنترية والخطب المنبرية، وهذا سر نجاحه، لذلك لابد أن نفهم كيف نجح قبل أن نمارس ساديتنا المزمنة تجاه الناجحين، السادية التى وصلت بالبعض للمطالبة بسحب لقب فخر العرب من صلاح!! إنها قمة «الأفورة»، كما تقول لغة الشباب، لابد أن نتعلم أن ساحة السياسة لا تحتمل تصرفات الألتراس ومشاغبات الدرجة الثالثة، فى امتحان تلك الأحداث سقط الألتراس السياسى ونجح صلاح النجم الكروى.
نقلا عن الاهرام