أحمد الخميسي
أشعر كأنني وحدي في غزة، وحدي عندما فاجأ القصف مرضى مستشفى المعمداني، فانهالت عليهم القنابل بدلا من الدواء، كأنني كل واحد منهم على حدة، وكل طبيب، وكأنني الملاءات البيضاء التي تشربت الدماء حتى ارتوت، وانكسرت وحدي مثل أنابيب المحاليل التي تحطمت. وحدي، لا يد، ولا صوت، ولا التفاتة، أمر بعيني على صفوف جثامين الأطفال الشهداء الخمسمئة وقد تراصت على الأرض، وحدي، كأنني الصبي الذي ودع بالأمس والده شهيدا وبعد ساعات رقد هو الآخر شهيدا. كأنني هناك، أتلقى بمفردي كل زخات الرصاص، ووحدي أهرول من بيت إلى بيت، ومن دمع إلى دمع، وحدي، أنزف ولا يضمد جراحي أحد، أصرخ ولا يهب لنجدتي شخص، أتحامل على نفسي وأنهض،

أهرول من مقاومة إلى مقاومة، أتلقى الضربات، وأقيم الجدران التي توشك على الانهيار. وحدي أجفف دموع امرأة عجوز، أسعف الجرحى، وحدي هناك. وما من صوت يشد ازري، أنزع الشظايا من لحمي وأتقدم، كأنني الأم التي بكت وصرخت لأن أطفالها الثلاثة ماتوا وهم جوعى، تبكي لأنهم لم يأكلوا شيئا قبل الوداع. أثب من بيت إلى آخر، كأنني تلك الأسرة التي دفن أفرادها الخمسة الوالدين وأطفالهم الثلاثة جميعا في كفن واحد، لأن الأكفان لا تكفي لكل الشهداء. وحدي أنقش في ذاكرتي إلى الأبد كل اسم من الأسماء الخمسة المكتوبة على القماش الأبيض. وحدي، وكأن فلسطين كلها محمية في بيتي، بين جدران منزلي، بين اوراقي وذكرياتي، ومعلقة على الجدار مع صور أبي وامي، وانا هناك أموت وأبعث تحت القصف كل دقيقة، أقاتل في حصار الجوع والعطش. عيناي لطائرات السماء وأذني لقصف القنابل وأنفاسي لدخان الحرائق. وفلسطين عندي، تعيش في قلق، وتنهض، تمشي تغرس أشجارها بمحاذاة الجدران، تحفر نهرا في الأرض، تفتح سماء. وأنا هناك، أترنح على هدى دعائها، وحدي ولا أحد، سلاحي معي،

أعيش كل لحظة ما بين الاستشهاد والعناد، كأنني أخر انفاس الحياة، أول انفاس الميلاد، أمشي يغطيني ركام البيوت، ويطوقني بكاء طفل. أتقدم وأرى على حافة الرصيف كف طفلة بترت عن بدنها، ملقاة وحدها، مكتوب على راحتها : " إذا لم تكتب لي النجاة فهذا اسمي آية عبد الرحمن 12 سنة". وحدي كأنني كف الصبية، كأنني كلماتها القليلة، كأنني عيناها ساعة الانغلاق. أحتمى بنصف جدار، وألمح من حولي الجثمانين التي لفوها على عجل في أكفان، وأسمع من داخل الأكفان رنين هواتف محمولة دفنت مع أصحابها في جيوبهم، أو بين أياديهم. أنصت إلى رنين الهواتف متصلا يخترق صمت الغياب الأبدي نحو عالم آخر. شخص ما يتصل ليطمئن على والده، فتي يود أن يسمع صوت محبوبته، طفل يشتاق الى صوت ابيه. تواصل الهواتف رنينها المتقطع في صمت الغياب، ترن إلى العالم الآخر، وأشعر وحدي بتلك المحاولة للاتصال بعالم آخر،

وأكاد أوقن انني ذلك الرنين في غياب مهول. وحدي وكأنني كل ذلك الصمت الشاسع وكل تلك الحرائق، والقنابل. هدني التعب، وسقطت على الأرض فتقدمت فلسطين كلها ترفعني، توقف نزيفي، ثم تمضي وحدها في الشوارع، كل ما تلمسه من تراب يصبح سلاحا، وكل ما تنظر إليه في الهواء يصبح طائرة، وكل أنفاسها لهب، تقاتل بعينيها، وبأشجارها، تنصرها الريح، والموج في النهر، طين الأرض، ونور القمر الساري في الزهر. وأنا داخل بيتي، محمي بين جدراني، وكأن فلسطين هناك وحدها، أصيح عليها فتلتفت الي من بعيد، تلوح بيدها وتهتف: لا تخش شيئا انا اقوى مما تظن. وتمضي وحدها هناك، ومن حولها ملايين الأعناق والعيون مرفوعة إليها.
نقلا عن الدستور