بقلم: أسامة بدير
بين الرأي والرأي الآخر.. بين الحجة بالحجة.. بين الفكر بالفكر.. بين الإحترام المتبادل القائم على الشراكة وبناء جسور الثقة لبني البشر من أجل تعزيز وتأكيد قيم حميدة يحتاجها المجتمع المصري الآن وهو في أشد الإحتياج إليها أكثر من أي وقت مضى.. بين استخدام العقل وكل الجوارح التي وهبها الله إلينا يرقى ويسمو الإنسان فوق كل صغائر الأمور.. بين الجهل والتخلف وجمود الفكر والتمسك بالرأي -بل والتشدد فيه- تنهار كل القيم والمثل العليا، ويصبح المجتمع الإنسانى كالغابة يأكل فيه القوى الضعيف، ويتسلق فيه المنافق المخادع أعلى درجات السلم الاجتماعي في غفلة من الزمن، وهكذا تتصارع الأفكار بل وربما تتقاتل من أجل البقاء لأصحاب الصوت العالي لأصحاب الحنجرة القوية، لا قيمة ولا وزن ولا صوت يعلو فوق الرجعية والجمود والثرثرة، وعندها فعلى المجتمع السلامة.

بالأمس القريب وعلى مدار يومين كنت ضمن حضور ورشة عمل في إحدى فنادق العاصمة المصرية القاهرة دعت إليها ونظمتها منظمة الشفافية الدولية، وكانت تحمل عنوان "تعزيز قدرات الدعوة والتأثير لنخبة من منظمات المجتمع المدني في مصر لدعم النزاهة والشفافية والمساءلة"، وبحضور ممثلين لنحو 27منظمة حقوقية من منظمات المجتمع المدني في مصر، كانت ورشة العمل التي استهدفت أن يكون من أهم مخرجاتها وضع استراتيجية لمقاومة الفساد ودعم النزاهة والشفافية والمساءلة.

كان النقاش يبن الحضور يتسم بالمصداقية تارة وأخرى بالسطحية وعدم التركيز في القضايا الملحة التي تهم المجتمع لتكون محل اهتمام الاستراتيجية، وبين هذا وذاك حدث في اليوم الثاني لهذه الورشة ما لا يُحمد عقباه.

لقد حزنت كثيرًا وفكرت مرات عديدة قبل أن أخط هذه السطور لكي أكشف الخلل الذي تعاني منه كثير من منظمات المجتمع المدني في مصر، وليس هذا الخلل بالهين ولا يمكن السكوت عليه، فهو نذير شؤم ينذر بتدمير كل ما حققه القطاع المدني في مصر عبر سنوات طويلة.

ما حدث يا سادة أن تشبثت سمر -وهي فتاة في العقد الثالث من عمرها- برأيها -في إحدى القضايا التي كانت تناقش- رغم معارضة الجميع لها، وليس ذلك فحسب بل عندما أردت أن أقاطعها لعدم الخوض في مثل هذا الأمر، وحرصًا مني على عدم خلط الأمور ببعضها وإحداث فوضى وبلبلة لأفكار الحاضرين، وعدم ضياع الوقت في ثرثرة لا تفيد إلا صاحبتها، وإذا بسمر ترد بأسلوب لا يرقى إلى الأسلوب الحضاري في مثل هذه المناقشات القيمة والهامة التي ربما تحدد مستقبل هذا الوطن خلال المرحلة القادمة، كان ردها استفزازى وينم عن شخصية ديكتاتورية تسلطية بعيدة كل البعد عن أبسط قواعد الأدب –أدب الحوار الراقي– ومن جانبي آثرت ألا أرد عليها وأنزلق وراء هذا الإسفاف في الحوار والاتهامات المتبادلة بيننا، فهذا طبعًا وبلا أدنى شك يسيء لكل أطراف القضية محل ورشة عملنا، إضافة إلى أن هذا ليس من شخصيتي المشاركة في مثل هذا السفه.

عزيزي القارىء هذا نموذج -ولو أنه قلما يتواجد كثيرًا في محيط المنظمات الحقوقية العاملة في مصر- يسيء إلى كل العاملين في هذا المجال، وينبغى علينا أن نسعى جاهدين لغرس وتعميق ثقافة غابت لفترة طويلة ليس فقط عن العاملين بمنظمات المجتمع المدني بل غابت عن المجتمع المصري كله، وحان الوقت لنسعى جميعًا وبمشاركة كل الأطراف المعنية والفاعلة أن نؤصل ثقافة الرأي والرأي الآخر، وأن يحترم كل منا رأي الآخر، وأن الآخر هذا ليس عدو لنا وإنما هو مكمل ومدعم ومساند، فالأفكار تكمل بعضها بعضًا وكلنا يضيف للآخر والاختلاف في الرأى أبدًا لا يفسد للود قضية.

فى مصر أكثر من 20 ألف منظمة مجتمع مدني تعمل في جميع المجالات ولها دور فاعل ومؤثر في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوقية وحتى السياسية، فكيف لها أن تحقق ذلك بدون قاعدة أساسية تمثل ركيزة من ركائز التقدم والتطور في دورها ألا وهي الحق في إحترام الرأي والرأي الآخر؟، بهذا الحق أو القاعدة أو الركيزة تنهض منظمات المجتمع المدني وتمارس دورها على أكمل وجه، وتحقق أهدافها على كل المستويات العامة والخاصة وكذا الحقوق والواجبات، وتصل بالمجتمع ككل إلى غايته التي ينشدها مجتمع حر تسوده قيم العدل والمساوة والشفافية والنزاهة والمساءلة.

لقد تقدمت كل الدول من حولنا -عبر طريق واحد كان أساس نموها وحضارتها وتفوقها وجعلها تحقق معدلات نمو اقتصادي سريعة ومتزنة وحقيقية تعود ثماره على كل فئات المجتمع- بحرية الرأي والتعبير قديمًا رفعت الثورة الفرنسية شعارا كان سبب نهضتها ورقيها "اتركه يعمل اتركه يمر".

ليتنا نتكاتف كمنظمات مجتمع مدني فاعل ومؤثر ونرفع سويًا شعار نؤمن نحن به أولاً ونطبقه على أنفسنا قبل أن ننادي به ونطالب حكومتنا بتطبيقه، وعندها فقط سوف يستطيع المجتمع المدني بكل منظماته وقياداته وكوادره أن يتولى وبحق مسئولية القيام بحمل لواء التغيير في هذا الوطن، ليس التغيير من أجل التغيير فحسب، بل أنه سيكون الأصلح لحياة الناس ومستقبلهم، وبناء قدرات الفرد اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وحضاريًا وسياسيًا، لتصب في نهضة وتقدم المجتمع كله.

usamabedir@yahoo.com