محمود العلايلى
يحكى أن أحدهم-فى قصة شهيرة-عاد إلى منزله وهو يجر خلفه بقرة، حتى دخل بها إلى حديقة منزله حيث ربطها، ثم صعد سريعا ليبشر زوجته بما جاء، حيث أخبرها سعيدا أنهم بهذه الطريقة يمكنهم أن يحلبوا لبنها يوميا كما يمكنهم أن يصنعوا ما يريدون من الجبن كناتج من هذا اللبن الطازج، وفى النهاية لديهم الحرية فى ذبحها يوما ما إذا أرادوا للإستفادة من لحمها أكلا أو بيعا بعد أن يستنفذوا أغراضهم منها، وعلى عكس توقعاته جاء رد زوجته مستجدية أن هذه البقرة ليس لها مكان فى الحديقة لأنها ستفسد النجيلة الجميلة التى طالما تعبت الزوجة فى زرعها، كما أنها ستأكل الزهور الرائعة التى أنفقت الزوجة الوقت والمال لتنسيقها، وبينما كان الزوج النميس راجع إلى بقرته وكل تفكيره أين يأخذها، فإذا بزوجته تمر عليه وهى تنظر إلى حديقتها الغالية بخوف قائلة: سوف أذهب إلى السوق لشراء بعض المستلزمات وأرجوك أن تجد لها مكان غير الحديقة.

عادت الزوجة القلقة من السوق ولم تجد البقرة فى الحديقة كما طلبت، ولكن كانت رائحتها مازالت تعبء المكان، وبعد أن تركت مشترياتها فى المطبخ صعدت إلى غرفة نومهما لتذهل عندما فتحت الباب لتستقبلتها البقرة بتنعيرة طويلة، لتجد زوجها واقف يطعمها بحزمة برسيم فى يده، ليقول لها ببراءة مصطنعة، أنه قد فعل لها ما أرادت، فما كان من المرأة المقهورة إلا أن نزلت على ركبتيها مستجدية إياه أن يعود بالبقرة إلى الحديقة حيث كانت!

لقد فعل الزوج الحبيب ما تنص عليه أذكى الإسترتيجيات العسكرية بالهروب إلى الأمام حيث يجدك العدو فى موقع متقدم بعد أن هاجمك بدلا من التقهقر والإنسحاب، وطبق أرقى فنون التفاوض بشكل عام والتفاوض السياسى بشكل خاص، حيث أصبح سقف التفاوض أعلى كثيرا عما بدأ به ليرضى خصمه بأقل القليل، لدرجة إستجداء ما كان يرفضه فى أولى مراحل النزاع.

إن ما يحدث فى الشأن الفلسطينى-الإسرائيلى لا يختلف كثيرا عن نزاع صاحبنا وزوجته حيث أصبحت القضية الأساسية المتمثلة فى الأرض والدولة وحق العودة فى مرتبة ثانوية، طغت عليها أولوية المطالبة بالقصف الإنسانى والإعتراض على الحرب غير المتكافئة، بينما تظل الحرب هى الحرب، والقصف هو القصف، سواء كان الضحايا رجال أم نساء أم أطفال، وسواء أدان العالم قصف الأحياء المدنية والمستشفيات، فإن الموت هو الموت سواء كان الموتى يرتدون الملابس العسكرية أم الزى المدرسى، حيث تم جر العالم من الحديث عن الحرب نفسها وأسبابها، إلى نزاع إن كانت الحرب إنسانية أم غير الإنسانية، أو إلى الحديث عن إختيار أسلوب القتل المناسب ونوع الموت المقبول، ناهينا عن تحديد السن المناسب للشهداء والضحايا المصابين، فى تناقض هزلى، بدلا من الوقوف على أسباب الحرب والدمار ووقفها، لأن الروح هى الروح، والدماء هى الدماء، والجراح هى الجراح.

إذا كانت إسرائيل قد نجحت على الدوام فى تعلية سقف التفاوض وبالتالى خفض سقف التوقعات، فليس من الحكمة بمكان الإصرار على المضى بنفس السياسات التى لم تجد على مدى ثمانية عقود من الزمن، بل كانت تأتى بنتائج عكسية دائما، فى عالم واقعى يعد الحق فيه مسألة نسبية، ويوكل القوى فيه بتحقيق العدل، ولذلك آن أوان إعادة النظر فى منطلقات التحرير والمقاومة بعيدا عن أوهام الحق والعدل-للأسف- حيث لم يذكر  لنا تاريخ الصراع منذ بدأ متى وكيف أثمرت السياسات أو العمليات العسكرية الفلسطينية عن نتائج إيجابية، بل نتيجة مكررة من الخسائر المتتالية ليقف الفلسطينيون موقف الزوجة المذكورة وهى تستجدى الزوج ليعيد البقرة إلى الحديقة مرة أخرى، حتى جاء اليوم الذى ردمت فيه الحديقة وماتت ورودها، بل ولم يعد للحديقة نفسها أى وجود.  
نقلا عن المصري اليوم