الأنبا موسى
الوطن هو الأرض أو المكان الذى ينشأ عليه الأشخاص: فى ترابط وتناسق وانسجام ومصالح واهتمامات مشتركة.
وهو بمثابة الأم التى تعطى من دمها لأبنائها بلا حدود، وهو الملجأ الأمين لأبنائه، ولا يشعر بقيمته إلا مَن حُرم منه، وتغرب بعيدًا عنه، فالوطن يُعتبر لأبنائه: الأمن والأمان والدفء والحنان، ومهما تغرب الإنسان عنه لسنوات، إلا أنه يشعر فى أعماقه بالحنين والانتماء، وتكون فرحته وأمله فى الرجوع إليه.
ومن أشهر كلمات قداسة البابا شنودة «مصر وطن يعيش فينا»، ومن هذا المنطلق نقول:
1- لا للتهجير ولا للعنف ولا لقتل العُزل:
- أى وطن غالٍ جدًّا فى عيون أبنائه، كارتباط الابن بأمه، فهو ارتباط وثيق، يشعر الإنسان بالفخر لانتمائه لهذا الوطن، وبدون الوطن يشعر الإنسان بأنه لا قيمة له. ونحن فى كل جيل نتفاجأ بمَن لهم مطامع فى مصر العظيمة، التى حباها الله بموقع جغرافى ممتاز، بين قارات العالم. ولكننا أمام كل هذا بالمرصاد، فوطننا العزيز غالٍ علينا، ويستحيل التفريط فى أى شبر من أرضه.
- من كلمات المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث ومبادئه تجاه القضية الفلسطينية: «لا للاحتلال، لا للتهويد، لا للتدويل». وكان يقول قداسته: «تدويل القدس معناه التنازل عن عروبتها، ونحن نؤمن بعروبة القدس». وقد شهدت أيامه الكاتدرائية المرقسية بالعباسية المؤتمر الوطنى الشعبى من أجل تأييد الشعب الفلسطينى، وكان ذلك مساء يوم الخميس 11 إبريل 2002م بحضور قداسته، وبدافع وطنى قوى وبإدراك عميق للمسؤولية الوطنية، لم يصرح قداسة البابا للأقباط بزيارة الأماكن المقدسة فى القدس وفلسطين، وعبّر عن ذلك: «لن ندخل القدس إلا وأيدينا فى أيدى إخوتنا المسلمين» مجلة أكتوبر 4 يناير 1987، لذلك لقبه الإخوة المسلمون بلقب «بابا العرب».
2- الاعتزاز والمشاركة الدائمة فى المناسبات الوطنية:
- قداسة البابا شنودة كان لا تفوته أى مناسبة وطنية، بإدراك عميق للمسؤولية الوطنية، فلا ينسى مشاركته فى الاحتفال برفع العَلَم المصرى على طابا يوم 19 مارس 1979م، ورفع العَلَم المصرى على العريش يوم 26 مايو 1979، وقام قداسته بتقبيل عَلَم مصر مع كبار رجال الدولة، فى مشهد يفيض بالوطنية. وفى إطار المناسبات الوطنية أيضًا، فإن قداسته لا يتأخر أبدًا عن المشاركة فى جلسات مجلسى الشعب والشورى، وفى كل مرة يكون فيها لقاء لرئيس الجمهورية مع ممثلى الشعب، وكذلك كان يحرص على الحضور فى المناسبات الوطنية والقومية الأخرى، ومنها: الاحتفالات بانتصارات أكتوبر، عيد تحرير سيناء، عيد العمال، يوم الطبيب، وكثيرًا ما يُدعى إلى ندوة ثقافية فى معرض الكتاب، وسائر المناسبات الوطنية.. إلخ.
3- مصرنا خط أحمر:
- كما قالها الرئيس السيسى، لا تدخل لأى بلد فى الشؤون الداخلية لبلادنا. وهنا نجد كثيرًا من بطاركة الكنيسة القبطية كانوا ومازالوا يتمتعون بحس وطنى عالٍ دون رياء أو نفاق أو تملق، ومنهم البطريرك ١٠٩، المُلقب بالبابا «بطرس الجاولى» (١٨٠٩- ١٨٥٢م)، الذى اتصف بالتقوى والورع والتقشف والزهد، قليل الكلام مع هيبة ووقار، يقضى يومه منكبًّا على المطالعة، أو مواظبًا على الصلاة من أجل سلام الكنيسة ومصر والعالم.
- كان لا يتعرض إلى أمر من أمور السياسة، ولا يخرج من دار البطريركية إلا إذا دعته الحاجة.
- أضاف هذا البابا إلى صفاته هذه صفة الحلم فى الرئاسة، والحكمة فى التصرف، والقدوة فى الكلام، فأصبح موضع احترام لدى الكل، كما شغل الأقباط فى عهده العديد من المناصب الإدارية الرفيعة، وإقامة شعائرهم الدينية وباشروا عبادتهم فى حرية.
- لما كان «محمد على» موفقًا فى الفتوحات، شرقًا وغربًا، خشيت الدول الأجنبية من هذا، ومنها روسيا، التى قدّرت سوء الموقف لو استمر فى فتوحاته، ففكرت أن تستعين بالأقباط فى الوصول إلى أهدافها ضد محمد على، فأرسلت أميرًا روسيًّا يعرض على البطريرك قبول حماية قيصر الروس للأقباط، فذهب هذا المندوب الروسى إلى الدار البطريركية.
ظنًّا منه أنه سيرى رئيس أكبر طائفة مسيحية فى إفريقيا بحالة تدل على عظمته، ولما وصل رأى إنسانًا بسيطًا يحمل الكتاب المقدس بين يديه، يقرأ فيه وهو يرتدى جلبابًا خشنًا جالسًا على دكة خشبية، ولم يُبالِ به، فسأله فى شك: «هل أنت البطريرك؟!»، فلما عرف منه طلب إليه أن يجلس بجواره، فأخذ المندوب يتفرس فيه، وهو لا يصدق أنه يجالس البطريرك، وبدأ المندوب يسأله: لماذا تعيش بهذه البساطة، ولا تهتم بمركزك فى العالم المسيحى؟!.
فأجابه البابا: أنا عبد السيد المسيح الذى عاش مع الفقراء ولأجلهم، ولم يكن له أين يسند رأسه.. وبعد تعجُب من المندوب، بدأ يعرض على البابا فى بساطة طلب الحماية الذى جاء لأجله، فسأله البابا الحكيم: «وهل ملككم يحيا إلى الأبد؟»، قال له المندوب: «لا يا سيدى البابا، بل هو إنسان يموت كما يموت سائر البشر»، فأجابه البابا: «إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت، وأما نحن فتحت رعاية ملك لا يموت، وهو الله»، وهنا لم يطلب البابا الحكيم أى حماية تأتى الأقباط سواء من محمد على أو من أى شخص بشرى آخر.
حينئذ لم يسع المندوب الروسى إلا أن ترك البابا وهو يشعر بعظمة هذا الرجل البسيط، وقال: «لم تدهشنى عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات، ولم يهزنى كل ما فى هذا القطر من العجائب، بقدر ما هزنى ما رأيته فى هذا البطريرك القبطى». ولما وصل نبأ هذه المقابلة إلى مسامع محمد على سُرَّ جدًّا، وذهب إليه ليهنئه على موقفه وما أبداه من الوطنية الحقة، فقال له البابا الوقور: «لا تشكر مَن قام بواجب عليه نحو بلاده»، فقال له محمد على: «لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك».
حفظ الله مصر من كل سوء، ولربنا المجد إلى الأبد آمين.
نقلا عن المصري اليوم