مدحت بشاي
جاء فى تعليق لموقع «بى بى سى نيوز» الإلكترونى على الأحداث الأخيرة فى غزة: «وكان هذا العام الأكثر دموية على الإطلاق للفلسطينيين فى الضفة الغربية، الأمر الذى كان دافعًا لحماس نحو شن هجوم مذهل، وربما كانت حماس أيضًا تسعى إلى تحقيق نصر دعائى كبير ضد إسرائيل لتعزيز شعبيتها بين الفلسطينيين.. ومن المرجح أن يكون الهدف من احتجاز هذا العدد الكبير من الإسرائيليين هو الضغط على إسرائيل لحملها على إطلاق سراح بعض المحتجزين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، والذين يبلغ عددهم نحو 4500 فلسطينى، وهى قضية عاطفية لجميع الفلسطينيين..».
هكذا يذهب الموقع فى تعليقه إلى تبسيط غريب للأمور، حيث يرى المعلق أن كل أهداف «حماس» تكمن فقط فى تحقيق نصر دعائى كبير ضد إسرائيل لتعزيز شعبيتها بين الفلسطينيين!، وأن الأمر فى النهاية مجرد «قضية عاطفية»، وكأننا لسنا بصدد نزال دموى بشع على الأرض الفلسطينية، وحرب مشتعلة، وتدمير شامل لمقدرات شعب قطاع غزة، تمارسه قوى البغى الغاشمة الإسرائيلية.. وحتى عندما أعلنت حماس أنهم جاهزون لتسليم ما لديهم من الإسرائيليين لم تستجب الحكومة الإسرائيلية رغم الضغوط التى تمارسها عائلات هؤلاء عبر مظاهرات ضاغطة، وبتعاظم العنجهية المصنوعة بعد إعلان المحتل عن عزم قواته القيام بزحف برى هائل، فهم فى انتظار مكاسب أكثر على الأرض لتحقيق موقف تفاوضى أفضل.
وقد تأتى تلك الممارسات الصحفية السابق الإشارة إليها للتماهى مع مقولة شهيرة للكاتب جورج أورويل - الصحفى والروائى البريطانى وعبارته الأثيرة: «الصحافة هى طباعة ما لا يريد أحدهم له أن يُطبع، كل ما عدا ذلك يدخل فى خانة العلاقات العامة».. ومعلوم أن «أورويل» يعد من المطالبين باستحضار العدالة الاجتماعية الغائبة والمبشرين بالاشتراكية الديمقراطية فى زمانه.
مع الإرهاصات الأولى للربيع العربى فى عدد من الدول العربية، برز ما يمكن تسميته ظاهرة «صحافة المواطن»، التى استفادت من مخرجاتها الصحافة التقليدية والإعلام النمطى، بعد اكتشاف أهمية التعاون بين الطرفين، فاستفاد شباب «صحافة المواطن» من أرضيات مساحات النشر التقليدية، فبادروا بإعداد موادهم والتبرع بها للصحافة، وكانت الخطوة التالية إعداد ما يمكن تسميته بروتوكول تعاون غير مكتوب ودون تواصل مباشر بين الطرفين لإمكانية دعم كل ما ييسر التفاعل بينهما ليتغير شكل الإعلام بإطارات وإيقاعات وصياغات تتنوع وتتسع لسبل الممارسات.
ويذكرنا أحد من ينتمون إلى بيوت الصحافة التقليدية بدور ستة نشطاء شباب من محافظة الرقة فى سوريا، قرروا إطلاق موقع إلكترونى لتوثيق «الانتهاكات» التى يقولون إن تنظيمًا ما من التنظيمات الموسومة بممارستها الإرهاب، والتى يرتكبها عناصره بحق الأهالى والمدنيين بعد سيطرته على المدينة، وانقطاع أخبارها فى تلك الفترة بما يفرض استحالة دخولها، أو وصول قليل من زملائنا المراسلين تحت التخفى وتحت خطر عظيم فى عام 2014.. وكانوا قد أطلقوا على حملتهم الإلكترونية «الرِّقة تُذبح فى صمت».
ويواصل الصحفى عرضه لحال أصحاب تلك الحملة، وعَرْض كيف كانت ملاحقتهم من قبل ذلك التنظيم، لكنهم لم يتوقفوا، استمروا، واستمر كل الإعلام التقليدى والصحافة الحرة فى دعمهم، وخرجت الرقة إلى النور، وحصل الشباب على جائزة حرية الصحافة العالمية CPJ فى نوفمبر 2015، أصبحوا هم - وهم وحدهم تقريبًا - صوت الرقة، والوسيلة الإعلامية التى توثق الأحداث من هناك.
والآن.. هل نسأل ونحن أمام إرهاب دولة محتلة تمارس كل ألوان القهر وإصدار أحكام الإعدام المجانية بفرض التجويع والتعطيش والعزلة المخيفة المذلة بدون كهرباء وبلا إنترنت وتحت وابل صواريخ القصف، ترصد كل وسائل إعلام الدنيا مشاهد هرولة المدنيين الفلسطينيين وهم يحملون أهاليهم والدماء تغطى أجسادهم إلى المستشفيات أو المقابر الجماعية وفى الخلفية عمائر وبنايات تنهار على رؤوس ساكنيها.. نسأل هل تمنح تلك المواقع والمحطات الراصدة بأمانة لما يقع مثل تلك الجوائز العالمية؟!.
وكانت أجهزة الإعلام الصهيونية فى فترةٍ قبل معارك غزة على الجانب المقابل ـ على سبيل المثال ـ قد قامت بإنتاج 200 فيلم إسرائيلى دعائى قصير يُعلى من القيم الإنسانية والإيجابية للمواطن الإسرائيلى بشكل عام، والعسكرى بشكل خاص، وهى أفلام ناطقة باللغة الإنجليزية لتيسير تسويقها أوروبيًا ووصول رسائلها السياسية والإنسانية لكل الدنيا.. ومعلوم أن توجهات السينما الإسرائيلية قائمة على الفكر الصهيونى منذ بداياتها الأولى، ومن خلال دراسات أهل النقد السينمائى لمئات الأفلام الإسرائيلية وُجد أنها تعمدت تقديم الإنسان الفلسطينى والعربى بصورة الشخص الجاهل الشهوانى المتخلف المهزوم وصاحب العنتريات، بينما تقدم الإنسان اليهودى الإسرائيلى بصورة المتفوق الإنسانى والمنتصر.. كما أن غالبية الأفلام الإسرائيلية تصور جوانب تتعلق بتمجيد الجيش الإسرائيلى..
وهنا، هل لى أن أطالب أهل الإبداع السينمائى والتليفزيونى العرب بتقديم الشخصية العربية المناضلة الشريفة الحرة الوطنية الصادقة.. وهل أُسمعكم بعض أصوات أطفالنا على أرض غزة؟!..
■ «ماما.. قولى للشمس تفضل، أنا ما بحبش الليل عشان بيحصل فيه مجازر ودم».. هى مطالبة ورجاء لطفلة فلسطينية..
■ يسأل المراسل فى مواقع النزال الدموى طفلا فلسطينيا: تحب لما تكبر تشتغل إيه؟.. فيكون رد الطفل: «إحنا الفلسطينية مبنكبرش.. إحنا بنموت..»..
■ عندما يجد طفلٌ فلسطينى جريحٌ ينزفُ أن النائمَ بجواره صديقه ينزف بشدة ويعانى سكرات الموت على أرض بلاط مستشفى الموت، فيلقنه آيات الشهادة بكل اهتمام وهو يبكى لحاله..
إنهم أطفال تعايشوا مع الموت وعرفوا طقوس الوداع الدينية فمارسوها..
مئات المواقف والحكاوى نعيشها مع الطفل الفلسطينى تحتاج توثيقا وإعادة تقديمها فلسطينيًا وعربيًا فى أفلام ودراما وأغانٍ وترانيم ومسرح وموسيقى ولوحات، لمخاطبة مَن عميت بصائرهم وتراجعت ضمائرهم، فأعطوا ظهورهم لمجازر البشاعة الإسرائيلية، التى نالت من حياة 3 آلاف طفل فلسطينى حتى الآن.. فالبعض يرونها مجرد «قضية عاطفية»!.
نقلا عن المصري اليوم