محمود العلايلي
حقيقة الأمر أن المقاطعة التجارية لأسباب سياسية أسلوب فعال إذا أصاب الهدف المرجو منه، وهو إشعار الشركات المعنية بتأثير تلك المقاطعة على مبيعاتهم سلبًا، وبالتالى تضغط هذه الشركات على حكوماتها لتعديل أو تحويل موقفها السياسى وقراراتها، التي أدت إلى الغضب، مما أوصل الناس إلى هذه الدعوات من المقاطعة.
وسيرًا على هذا النهج، جاءت دعوات مقاطعة المنتجات والشركات الأمريكية والأوروبية الموالية لإسرائيل، وحظيت بزخم كبير، وهو ما ظهر بوضوح على منصات التواصل الاجتماعى، وتوازت مع هذه الدعوات الدعوة إلى شراء المنتجات المحلية على حساب أي منتجات غربية، وهى مسألة تحتاج إلى الوقوف عندها لأنه إذا كانت الدعوة إلى الكف عن شراء المنتجات المستوردة لحساب المنتجات المصنوعة محليًّا.
فذلك ممكن أن يكون مهمًّا لإنعاش الصناعة المحلية وعدم استهلاك النقد الأجنبى فيما يمكن الاستغناء عنه، أما مقاطعة المنتجات التي تُصنع محليًّا تحت أسماء أجنبية فتلك مشكلة لأن المسألة تضر المصنع المصرى، وتمس العمالة المصرية، كما أنها تؤثر أيضًا على الحصيلة الضريبية، ولا تتأثر الشركة الأم كثيرًا لأن نسبتها لا تكاد تقارن كثيرًا بالوكيل المحلى، وحتى لو كانت الشركة الأم موجودة بنفسها دون وكيل فلايزال تهديد العمالة والاستثمار موجودًا.
أما الشىء الذي يدعو إلى التفكر، فهو حصر الشركات والأسماء الأجنبية في مطاعم خدمة الأكل السريع والمنتجات الاستهلاكية سريعة الدوران مثل المشروبات الغازية ومساحيق التنظيف إلخ، بينما لم يذكر الداعون مقاطعة مستلزمات الإنتاج والآلات والمُعدات الثقيلة والسيارات الغربية مثلًا، فهل سيستقيم الأمر حال حدوث ذلك، والأهم أن كل هذه الدعوات سرَت بين الداعين والجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعى الأمريكية دون أن يدعو أحد إلى مقاطعتها.
ولو لساعة، وهو الأمر الذي يأخذنا لما هو أهم، هل المقاطعة التجارية تكون من جانب واحد؟، أي بمقاطعة الواردات والأسماء الأجنبية فقط، أم أن إحداث التأثير يجب أن يكون بوقف ما نصدره لتلك الدول، وهو ما يُرجعنا إلى السؤال الواقعى عن الميزان التجارى وتأثير تلك المقاطعة من جانبنا إن كان لدينا ما نصدره بالفعل، أو إن كان وقف الصادرات قد يؤثر على اقتصاديات تلك الدول من عدمه.
إن مفهوم المقاطعة المؤثرة حقًّا كان نموذج قطع البترول عن الدول الغربية وقت حرب أكتوبر، وهو نموذج لم يتكرر على مستوى التأثير ولا على مستوى الإجماع العربى على قرار مصيرى، حيث لم تصدر دعوات المقاطعة الحالية إلا من مصر والأردن، أما المناداة بمقاطعة أسماء ومنتجات بعينها فيمكن أن تكون متنفسًا لطاقات الغضب للكثيرين على وسائل التواصل الاجتماعى.
ولكنه يهدد وظيفة عامل في مصنع، أو موظف في كافيه، أو شاب يقوم بالدليفرى لإحدى سلاسل الوجبات السريعة، في مقامرة يقوم بها الداعون من جيوب مواطنين آخرين، وعلى حساب مستقبل عائلات أخرى قد يفقد عائلها وظيفته بنفس بساطة نشر هذه البوستات ومشاركتها على منصات التواصل، وإذا كان الداعون ينادون بالتحول إلى المنتج المحلى الصرف، فتلك الدعوات النبيلة لها سياق مختلف لا يُشترط أن يتوازى مع الدعوة إلى مقاطعة منتجات أخرى تُعد مصنعة محليًّا أيضًا، وإن كانت بأسماء وخبرات أجنبية.
إن التأثير السلبى على نفسيات العاملين بتلك المؤسسات بالابتزاز المعنوى غير المباشر أمر لا يمكن إغفاله، كما أن التهديد المعلن لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة أمر وجب حسابه ضمن الحسبة السياسية والاقتصادية للأمر لأن الدعوة إلى جعل المنتج المحلى كأولوية مسألة لا تحتاج أزمة سياسية ولا مجازر بشرية لطرحها، وخاصة إذا كان المنتج يلبى الحاجة من ناحية السعر والجودة.
والأهم من هذا وذاك فإنه يجب تقييم ما إن كانت دعاوى المقاطعة مؤثرة فعلًا على القرار السياسى للدول، وإن كانت قد أفادت القضية الفلسطينية من قبل، أم أنها مُسكِّنات نفسية لتسكين الغضب وتخفيف آلام الضعف والانهزام، بل تؤدى إلى مشكلات اقتصادية محلية تُضاف إلى الفظائع الإنسانية التي يعانى منها أصحاب القضية الأصليون.
نقلا عن المصرى اليوم