فاطمة ناعوت
كانت الباخرة تتهادى على صفحة النيل، وكان شبابُ الخريجين يغنون ترانيم تدعو للمحبة والسلام ووقف العنف ضدّ أبناء غزة. «كنيسة العذراء» في شبرا الخيمة قررت أن تحتفل بالخريجين الجدد على متن باخرة نيلية واختارت يوم «عيد الحب المصرى» ٤ نوفمبر تحديدًا لكى تُرسل رسالة سلام إلى العالم، الذي نسى أن العنف يهدم الإنسانية التي لم يعد بوسعها أن تتنفس. دعَونى أنا وصغيرى «عمر» لنشاركهم هذه الرحلة النيلية. رحتُ أتأملُ ابنى يحمل باقة الزهور مُطرقًا، وشباب الخريجين، وأتساءلُ: «كيف سيبدأون حياتهم العملية وسط كل هذا العنف الذي يجتاح العالم؟!». مرَّ «عيدُ الحب» دون أن يشعر أحدٌ لأن القلوب حزينةٌ مُثقلةٌ بالوجع وعدم الثقة في أن غدًا مشرقًا سوف يأتى.
في ٤ نوفمبر عام ١٩٨٨، شاهد الأستاذ «مصطفى أمين» جنازًا يمرّ بحىّ السيدة زينب، ولا يسير وراء النعش إلا ثلاثةُ رجال!، فاندهش الأستاذُ، وسأل عن المتوفى وسرّ الجناز الشاغر من المُشيعين!، فأخبروه أن الراحلَ رجلٌ في السبعين، عاش عمرَه كلَّه دون أن يودّ الناسَ، فلم يحبّه الناسُ، فالحبُّ كما تعلمون «عُملةٌ» دوّارة. إن أنفقتها عادت إليك. هنا قرّر الصحفى الكبير أن يقترح في عموده الشهير: «فكرة» بجريدة الأخبار، أن يجعل ذلك اليوم «عيدًا للحب»، لكى نتذكّر قيمة الحب. والحبّ هنا هو الحبّ الإنسانى الذي يُعطى دون أن يفكر في المقابل. وهو ما نفتقده بكل أسف في عالمنا الراهن.
واليومَ، وبعد مرور عقود على إطلاق العيد المصرى، أتساءلُ إن كان يجوز أن ننطق كلمة «حب»، دون أن نشعرَ بالخجل، وسط المذابح والدماء التي تُغرق العالم؟!، هل مازال بوسعنا أن ننعش في قلوب الناس تلك الملكة السماوية التي منحنا اللهُ إياها، ولكننا كفرنا بها حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من ويل ودمار؟!، هل مازال بوسعنا أن نقول «كلمة طيبة»؟!.
تذكرتُ الآن هذه الحكاية من الفولكلور القديم. أعلن الملكُ الفارسى «أنوشيوان» عن جائزة قدرها ٤٠٠ دينار لمَن يقول: «كلمة طيبة». ثم راح يجول في أرجاء مملكته تصحبه حاشيته، فشاهد فلاحًا عجوزًا تخطّى التسعين من عمره، يغرس شجرة زيتون، فسأله الملكُ متعجّبًا: «لماذا تغرس شجرةَ زيتون لن تأكل منها لأنها تحتاج إلى عشرين عامًا حتى تنمو وتثمر، وأنت طاعنٌ في العمر، ودنا أجلُك؟!»، فأجاب الفلاحُ العجوز: «السابقون زرعوا؛ ونحن حصدنا. كذلك نزرع نحن لكى يحصد اللاحقون»، فقال الملكُ: «هذه كلمة طيبة»، وأمر له بأربعمائة دينار. أخذها العجوزُ وابتسم، فسأله الملكُ: «لِمَ ابتسمت؟»، فأجاب الفلاحُ: «شجرةُ الزيتون تنمو بعد عشرين عامًا كما قلتَ جلالتك، ونمَت شجرتى قبل مولدها»، فقال الملك: «أحسنت!، وهذه ٤٠٠ دينار أخرى لقاء هذه الكلمة الطيبة»، فأخذها الفلاح، وابتسم مجدّدًا، فسأله الملكُ: «ولِمَ هذه الابتسامة الجديدة؟»، فأجاب الفلاحُ: «شجرة الزيتون تثمر مرةً في العام، وأثمرت شجرتى مرتين!»، فأمر له الملكُ بأربعمائة دينار أخرى، ثم مضى مسرعًا، بعدما ألقى السلامَ على الفلاح، فسأله رئيسُ الجند: «لماذا مضيتَ قبل اكتمال الحديث يا مولاى؟»، فأجاب الملكُ: «إن جلستُ إلى هذا الفلاح حتى الصباح، لنفدت خزائنُ الأموال، قبل أن تنفد كلماتُ العجوز الطيبة».
أن تحبّ أقرباءك وذويك، فأنت تشبه القطة التي تحبُّ أولادها، والأسد الذي يحنو على أسرته، ثم يفترس ما يشتهى من أجساد سواها. لكن أن تحبّ بشرًا لا تعرفهم، فأنت تستحق لقب: «إنسان». في هذا يقول «هنرى برجسون»: «الإنسانُ العادى يميلُ إلى موافقة الجماعة التي ينتمى إليها. أما العبقرى فيشعر أنه ينتمى إلى البشرية جمعاء. ولذا فهو يخترق حدودَ الجماعة التي نشأ فيها ثم يخاطب الإنسانية كلها بلغة الحب».
«الكلمة الطيبة صدقة»، كما ورد في الحديث الشريف. إنها «الكلمة الطيبة» التي قتلناها في أفواهنا، لنطلق ألسنَ التباغض والتلاعن والتكفير، متناسين ما ذكره القرآنُ الكريم: «ألمْ ترَ كيف ضرب اللهُ مثلًا كلمةً طيبة كشجرةٍ طيبة أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء تؤتى أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربّها ويضربُ اللهُ الأمثالَ للناس لعلّهم يتذكرون»، لكن الأشرار «لا يتذكرون»، وتجتاحهم شهوةُ الدم والقتل، فيغمضون أعينَهم عن أوامر الله. ليتنا نوقنُ أن «الحبَّ» هو طوق النجاة الأخير للبشرية. ليتنا نتذكر أن الله هو الحب المطلق، وأننا إذ نحبُّ الآخرين فنحن نتشبث بقبس من نور الله.
أتمنى أن تختفى الحروبُ من العالم، وأن تذوب كلمةُ «عنف» بين سطور معاجمنا. أتمنى أن تُوجَّه المليارات التي يُصنع بها السلاح في العالم إلى بناء مدارس وحدائق ومشافٍ حتى لا يتبقى في العالم طفلٌ مريضٌ أو حزينٌ أو جاهل. آمين.
نقلا عن المصري اليوم