أحمد الجمال
عام 1993 صدرت الطبعة الأولى من الترجمة العربية لكتاب «حفارو القبور.. نداء جديد للأحياء»، الذى ألّفه عام 1992 روجيه جارودى، وقد نقلته للعربية رانيا الهاشم، وصدرت الترجمة عن دار عويدات، وقد أضفته لمكتبتى منذ ثلاثين عامًا، ومع الانتقالات المتكررة، والغياب الذى كان يطول، يختفى الكتاب عن نظرى ثم أعثر عليه ليختفى، وفى كل مرة أعيد قراءته، لأنه- ورغم صفحاته القليلة نسبيًا، التى تبلغ 165 صفحة من الحجم المتوسط- فيه قراءة أزعم أنها عميقة للقضايا التى شغلت العقل البشرى فى تسعينيات القرن الماضى، وأظن أنها مازالت تشغله للآن، ومنها ما يتصل بعلاقات الشمال بالجنوب، وسمات الانحطاط ودور التكنولوجيا ومسائل العلاقة بين الإنسان والإلحاد والإيمان، ثم حديث عميق وموجز للإجابة عن «ما العمل؟!»، وفيه يحاول توضيح ما سماه «مفتاح مشاكلنا»، ووجده فى «تغيير علاقتنا- الضمير عائد على الغرب- تغييرًا جذريًا، وتغيير نموذج النمو الغربى تغييرًا جذريًا يُحدث تحولًا تدريجيًا لعملنا، لا وفقًا لأنانية وطنية لن تحل أى مشكلة بل ستزيد من حدة المشاكل، لكن وفقًا لحاجات العالم فى كليته، وأولًا وفقًا لحاجات القسم المحروم منه العالم الثالث».
وقد وضعت السيدة سوزان جورج- عالمة سياسة واقتصاد واجتماع وفيلسوفة وكاتبة من أصل فرنسى، وأشرف على رسالتها للدكتوراه الدكتور أنور عبدالملك- تصورًا كاملًا لنظام اقتصادى عالمى جديد يتناقض مع نظام صندوق النقد الدولى الذين يزيد الاختلال العالمى.
ويستطرد «جارودى» ليؤكد أن «الحل الوحيد الجذرى هو الانفتاح على العالم الثالث بحاجاته ليتم توفير فرص عمل هائلة، شرط عدم اعتباره مصبًا لاقتصادنا الفائض الذى ينتج بهدف الهدر والتسلح وتجارة السلاح أكثر مما ينتج لتلبية حاجات شعوبنا وحاجاتنا الفعلية، وهذا يعنى سياسة تؤدى لتلبية الحاجات الحقيقية للعالم الثالث، فإفريقيا السوداء لا تحتاج إلى البنطال الملتصق أو إلى مزيل رائحة العرق».
ثم يتطرق «جارودى» لقضية الديمقراطية تحت عنوان: «مواجهة ديمقراطية السوق بأرستقراطية التضحية».
ويستشهد بما كتبه «روسو» فى العقد الاجتماعى عن أنه «لم يكن قط من ديمقراطية ولن يكون أبدًا»، ويذهب «جارودى» إلى أنه لم تكن إلا ديمقراطيات مزيفة.. ديمقراطية أثينا وديمقراطية الجمهورية الرومانية والديمقراطية فى أمريكا التى حلل المفكر توكفيل أسسها وكشف مساوئها منذ 1830، ثم ديمقراطية إعلان حقوق الإنسان وديمقراطية الثورة الفرنسية أو الديمقراطيات الليبرالية المرتكزة على أحادية السوق.. وترتكز أشكال الديمقراطية التاريخية الأخرى على الوهم والخداع نفسيهما، فميثاق استقلال الولايات المتحدة ينادى بالمساواة بين البشر، ويُبقى على الرق لمدة قرن، ولم يتخلَّ عنه إلا بعد الحرب الأهلية، فقد دام التمييز العنصرى تجاه السود مدة قرنين.. أما الدستور الفرنسى الأول فيعلن فى الديباجة، أى فى إعلان حقوق الإنسان والمواطن: «البشر كلهم يولدون أحرارًا ومتساوين فى الحقوق»، لكن هذا الدستور يستثنى من حق الاقتراع فى مواده ثلاثة أرباع المواطنين المعلنين باعتبارهم «مواطنين غير فعالين». ويستكمل «جارودى» عن زيف الديمقراطية حين يصل للنموذج الإسرائيلى فيقول: «ولئلا نضيع فى الأمثلة فلنستشهد بأحدثها- نوفمبر 1991- فلقد كتب أحد المراقبين بمناسبة مؤتمر مدريد حول الشرق الأوسط أن إسرائيل أعطت العرب النموذج المثالى للديمقراطية.. وهنا أيضًا حدد قانون المواطنية الإسرائيلى هذه الديمقراطية، فقانون العودة، وهو الأساسى فى دولة إسرائيل التى تعلن نفسها دولة يهودية، يحدد الانتماء اليهودى بأن يولد الفرد من أمّ يهودية أو يعتنق الديانة اليهودية.. إنه معيار الدم والمعيار المذهبى، وينتج عنهما التمييز، لذا فإنها ليست سوى حالة خاصة من أسطورة الديمقراطية، ففى إسرائيل يتمتع اليهودى بالديمقراطية لكن يُحرم غيره منها».
وفى الخاتمة الموجزة التى لا تزيد على صفحتين يقول روجيه جارودى: «ليس المستقبل هو ما سيكون بل هو ما سنفعل، كذلك فإن التاريخ الماضى لم يكن محتمًا لأن الإنسان ليس شيئًا ولا حيوانًا وهو ليس أسير غريزة أو عبد قدر ولا طفل العناية المدلل أو دمية لحتمية معينة.. فالإنسان يصنع تاريخه الخاص، وهو لا يصنعه بطريقة عشوائية بل بشروط ورثها عن الماضى، وما يميز الإنسان عن كائنات الطبيعة الأخرى قدرته على اختراع المشاريع وإبراز الاحتمالات أو الخيارات».. ويضيف: «انتصارات المستقبل ستحرز أولًا فى نفوس البشر، لأن السلاح، سواء كان حربيًا أو اقتصاديًا أو عقائديًا هو بين يدى الإنسان، وعندما ينهار شىء ما فى نفوس البشر يسقط هذا السلاح من بين أيديهم، ولهذا السبب يُخطئ العسكريون أو السياسيون دائمًا، لأنهم يقيسون القوة بقوة النار، وقد يربح المتسلح الأضعف، كما فى فيتنام والجزائر، وقد يُجرد شعب أعزل لا يحمل سلاحًا جيشًا قويًا كجيش شاه إيران، وهذا ما يحير هؤلاء العسكريين والسياسيين، فالإيمان لا يدخل دوائرهم الإلكترونية.. وهذا لا يعنى الاستغراق فى الوهم السماوى لدرجة الظن بأن الأفكار هى محرك التاريخ».
انتهى الاقتباس من كتاب «حفارو القبور» لروجيه جارودى، ويبقى أن أقتبس آخر عبارة كتبها، وهى: «يجب إذًا النظر من جديد فى إشكال الدين والسياسة والعقلية التى تسير إلى الهاوية، ولكن ليس بالعودة إلى المصادر بل بالتفكير فى تأثير هذه الخيارات سيئة الحال، وفى الشروط التى يجب أن نعمل فى إطارها على هذه المشاكل للنهوض من جديد»!
وأقول: نعم لابد من نظر جديد فى إشكال الدين والسياسة والعقلية التى تسير للهاوية.
نقلا عن المصرى اليوم