القمص يوحنا نصيف
يتساءل البعض عن معنى الآية الموجودة في سِفر الجامعة، التي تقول: "لأن في كثرة الحِكمة كثرة الغمّ، والذي يزيد علمًا يزيد حُزنًا" (جا1: 18).. فهل الحِكمة والعِلم يُزيدان الإنسان غَمًّا وحُزنًا؟ أَمْ ما هو المقصود بهذه الآية؟!!
+ في الحقيقة إنّ سِفر الجامعة يُقدِّم صورة واقعيّة للبشرية البائسة التي انفصلت عن الله بالخطيَّة، ففقد كلُّ شيء معناه وصار باطلاً.. ففي البداية كان كلّ شيء حسنًا جدًّا، بحسب شهادة الله نفسه (تك1)، ولكن بعد أن سقطت الخليقة في قبضة الشيطان الذي أفسد كلّ شيءٍ، وصار يتلذَّذ بمعاناة الإنسان، ويتفنّن في ابتكار أمور الشرّ التي تجعله يتألّم باستمرار، صار العالم الجميل الذي خلقه الله مشوّهًا بالكثير من الصراعات والكوارث والأحداث المُفجِعة.. وأخذ الموت يبتلع الجميع في جوفه الواحد تلو الآخر..
ولهذا كان مجيء السيّد المسيح بالتجسُّد والفداء بداية جديدة للبشريّة، فأنار الحياة والخلود مرّة أخرى، وأعاد لكلّ شيء معناه الأصيل المُفرِح.. فصار هو رأس الخليقة الجديدة التي دخلَتْ بالمعموديّة في عضوية جسده وملكوته المَجيد..
+ ما يقوله سليمان الحكيم في سِفر الجامعة، هو لسان حال البشريّة بعد السقوط وقبل مجيء المخلِّص..!
+ الحكمة هنا في هذه الآية المقصود بها الحكمة الأرضيّة، والمعرفة الأرضيّة المُنفصلة عن شركة الله، وهي التي وصفها الإنجيل بـأنّها "ليست هذه الحكمة نازلة مِن فوق بل هي أرضيّة نفسانيَّة شيطانيَّة.." (يع3: 15).. فهذه الحكمة تولِّد غمًّا وحزنًا إذ أنّ فيها "غيرة وتحزُّب وتشويش" (يع3: 16).
+ وهذا ما نراه باستمرار عندما نتعرّف من وسائل الإعلام على أخبار ومشاكل وصراعات العالم، وكيف يدبِّر الناس شرورًا لبعضهم، وكيف يستعملون الحيلة والدهاء والعنف.. فهذه الأمور تزيدنا غَمًّا وحُزنًا.. أمّا الأخبار السارّة فهي في انفتاح قلوبنا على محبّة المسيح الصادقة والتلذُّذ بها، والتمتُّع برعايته، والتأمُّل في كلماته الحيّة..
+ العِلم في هذه الآية ليس هو معرفة الله ومعرفة الخير والخِبرات الروحيّة، بل هو خبرات الشرّ والمعلومات التي تُعكِّر سلام النفس وتشوِّش الفكر وتُحزِن القلب.. والعجيب أنّ بعض الناس يسعون نحو المزيد من هذه المعرفة الضارّة، فيقضون ساعات طويلة لمتابعة أحداث العُنف والكراهية والدمار، أو يسألون بشغف عن أخبار وأمور شخصيّة لا تخصّهم، أو يحاولون معرفة أسرار وتفاصيل لا تفيدهم بل تُحزِنهم، وأحيانًا تُعثرهم وتؤذي علاقتهم بالله ونقاوة قلوبهم وتفكيرهم.. وقد يندمون أنّهم عرفوا مثل هذه المعلومات، ويتمنّون أن يعودوا إلى بساطتهم ونقاوتهم الأولى، ولكن بعد فوات الأوان..!
+ يقول القديس مار إسحق السرياني أنّ "محبّة العِلم غير المُمَلَّحة بحُبّ يسوع وفِعل الروح القدس، هي غريبة عن العالم الجديد، وهي ليست لها القُدرة على قطع الآلام (إزالة الخطيّة) من النفس".. لذلك هي تضرّ الإنسان وتُتعِبُه ولا تكون سببَ فرحٍ له.. بل تنحرف به بعيدًا عن الحياة الحقيقية..
ولعلّ هذا ما يوضّحه القديس بولس الرسول عندما قال: "العِلم يَنفُخ ولكنّ المحبّة تبني" (1كو8: 1)، بمعنى أنّ معرفة الأمور الأرضيّة قد تتّجه لتغذية الذات، فينتفخ الإنسان ويتكبّر، وبالتالي يتعطّل عمل الروح القدس فيه.. أمّا المحبّة فهي التي تبني حياة المؤمنين في الكنيسة..
من أجل هذا لنسعى بكلّ قلوبنا في طلب المحبّة وممارستها، أفضل من جَمع المعلومات والأخبار التي قد تُحزِن قلوبنا وتعكِّر صَفو شركتنا مع الله.
القمص يوحنا نصيف