رامي جلال
غابت الفواصل بين الدين كمنحة إلهية مقدسة وثابتة، وبين التدين كظاهرة إنسانية تخضع لقوانين التطور. وبناء عليه تحولت العلاقة بين الإنسان والله إلى استعراض صريح لمظاهر التدين الشكلى التي توغلت فينا لدرجة أثرت سلبًا على طرق وأنماط تفكيرنا.
لدينا الكثير من الأمثلة على توغل المظهرية الدينية، في كل الاتجاهات، والتى لا يصاحبها أي عمق ينعكس على تقدم المجتمع. على مستوى الحياة اليومية، الكثير من المحال تقوم بغلق أبوابها أثناء إقامة الصلوات، يتم ذلك حتى في المدن السياحية المصرية، فضلًا عن تعطيل بعض الموظفين بالمصالح الحكومية العمل لأداء الصلاة. وعدد من العاملين في مجال توصيل البضائع للمنازل يرفضون توصيل ما قد يتعارض مع تصوراتهم الدينية، مثل ملابس السهرة النسائية.
المسؤولون عن الملف الموسيقى في مصر يمارسون عمليات مطاردة أخلاقية لأى مغنٍ يردد في أغانيه كلمات لا تتوافق مع المعايير الأخلاقية من وجهة نظرهم، وقد قال نقيب الموسيقيين صراحة إن دور النقابة هو الحفاظ على المجتمع. وعلى المستوى المعرفى، لا توجد مدينة مصرية ليس بها مكان لتحفيظ القرآن الكريم، ومسابقة لحفظه، وهذا جيد، لكن مصر تخلو من مسابقات لفهم القرآن أو تفسيره.
أما على مستوى المناهج المدرسية فقد تم تديينها قدر الإمكان، ففضلًا عن تدريس مادة الدين في المدارس بكل مراحل التعليم الأساسى، نجد أن منهج اللغة العربية يحتوى بشكل صريح على عدد من النصوص الدينية الإسلامية التي تجبر غير المسلمين على تعلمها وحفظها وترديدها وكتابتها وتلاوتها، بل إن المرجعية الأخلاقية الوحيدة التي تُقدم للطلاب هي المرجعية الإسلامية.
انعكس كل ما سبق على العقل الجمعى، فأصبح لدينا مثلًا حالة شعبية من رفض الترحم على أرواح غير المسلمين، قطاعات من المصريين ترفض قول «الله يرحمه» عقب موت أي شخصية غير مسلمة حتى لو كانت شخصية عظيمة قدمت للمجتمع الكثير من الخدمات.
ولأن لكل عصر أدواته الخاصة، فقد انحسر عصر الجلابية والسبحة كمظاهر للتدين الشكلى، ودخلنا في مرحلة إعلان الانحياز الدينى عبر مواقع التواصل الاجتماعى، هناك على سبيل المثال عدد كبير من الصفحات المليونية على موقع «فيسبوك» يتلخص كل هدفها في نشر أدعية وابتهالات ومحاولة تحقيق أرقام قياسية في عدد «اللايكات» والتعليقات عليها، ولا يعرف المشتركون المساكين أن هذه طريقة استثمارية لأصحاب الصفحات الذين يستغلون هذا العدد لنشر أي معارف، فضلًا عن إمكانية تحولها في لحظة ما إلى صفحات لدعم كيانات ما هنا أو هناك.
انتشرت في مصر، القرن الماضى، عادة «إعلامية» شعبية تتلخص في أن شخصًا ما يوزع ورقة مكتوبة باليد، تحتوى على رسالة ما ختامها يطلب من المتلقى أن ينسخ منها عشر نسخ ويوزعها على قراء جدد، مع تحذير مفاده بأنه إن امتنع عن دوره الصحفى، من تحرير وطباعة وتوزيع، فستلاحقه المصائب وتصيبه الكوارث وتحاصره المآسى وتصير حياته بلا نبض ومستقبله بلا أمل!، وقد تم تغيير الوسيط فتحولت هذه الورقة نفسها إلى منشور على وسائل التواصل الاجتماعى. حملت هذه الأوراق أخبارا ونميمة وقصصا وحواديت، ولم تضم أبدًا أي محتوى علمى أو أدبى أو ابتكارى، كلها حكايات تبث الخزعبلات أو تمجد الخرافة أو تُعلى من قيمة الأسطورة، أو كل ما سبق معًا.
أزعم أن سبب كل هذا هو أن الدولة المصرية ليس لديها مشروع ثقافى واضح يمكن من خلاله مواجهة المشروع الثقافى الخاص باليمين الدينى المتشدد الذي انتشر واستشرى دون رادع في وقت يظن فيه البعض، من حيث الرؤية، أن الثقافة رفاهية، ومن حيث الإجراء، أنها تسيير أعمال ومكاتبات ورقية ومكاتب فخمة وملابس جميلة وتعاملات بروتوكولية. ونتج عن هذا كيانات ومؤسسات مترهلة لا تقدم أي ثقافة، بل قدمت البلد كاملًا على طبق من ذهب لجماعات متطرفة، والتى لولا ستر الله علينا لكنّا الآن نبحث عن دولة اسمها مصر، فاحذروا من تكرار التجربة.
نقلا عن المصرى اليوم