كتب - محرر الاقباط متحدون
قال الأنبا نيقولا أنطونيو، مطران طنطا للروم الأرثوذكس، والمتحدث باسم الكنيسة في مصر :" احتفلت كنيستنا الأرثوذكسية بعيد القديس يوحنا الرحوم، وهو القديس الذي ستُسمي بطريركية الإسكندرية وسائر أفريقيا باسمه الكنيسة التي ستنشأ في منطقة العاصمة الإدارية الجديدة لمصر ليكون شفيعها، جاء ذلك في منشور عبر صفحته الرسمية.
سيرة القديس:
ولد القدّيس يوحنا في العام 555 للميلاد في بلدة أماثوس القبرصية وفيها رقد في العام 619. كان والده أبيفانيوس أحد المتنفذين في الحكم في جزيرة قبرص: هذا كانت له على ابنه سطوة. تلقى نصيباً من العلم لا بأس به، ويبدو أنه نشأ على مخافة الله. ولما بلغ زوّجه والده عنوة فأنجب جملة أولاد. لكن، كانت له مع ربّه غير قصّة ولله في قدّيسيه غير أحكام، فقد رقدت زوجته وكذا أولاده في زهرة العمر وتركوه وحيداً إلى ربه.
ثم فجأة ظهر قصد الله فيه. ففي العام 609 أو ربما 610 للميلاد انتزع نيقيتا، قريب الإمبراطور هرقل، الإسكندرية إثر الفوضى التي دبّت في الإمبراطورية بعد المؤامرة التي دبّرها فوقا. وإذا بيوحنا، الرجل العامي، يبرز كبطريرك على المدينة. ظروف ارتقائه السدّة المرقسية لا نعرفها ولا تفاصيل انتقاله عبر الدرج الإكليريكي. موسكوس وصوفرونيوس ذكرا أنه كان أخاً لنيقيتا بالتبني فيما ورد في نص ليونتيوس أنه صار عرّاباً لأولاد الحاكم الجديد. في كل حال صار قديسنا بطريركاً على الإسكندرية واتخذ اسم يوحنا الخامس. وقد أظهرت الأيام أنه رغم ما غلّف اختياره من أمور غير عادية فإن ما جرى كان بتدبير من الله.
بلاد مصر يومها كان أكثرها من أصحاب الطبيعة الواحدة. وعندما اعتلى يوحنا الكرسي البطريركي كان عدد الكنائس الأرثوذكسية في مصر، أي الإبرشيات، سبعة فقط، والباقي تحول إلى غير الخلقيدونيين، وعندما مات وبسب كثرة أعماله المقدسة الطاهرة صار عدد الكنائس سبعون كنيسة.
يروى عنه أنه قبل تصييره بطريركاً جمع خدّام البطريركية وعمّال الخزينة وأمرهم بإجراء مسح في المدينة لمن أسماهم "أسياده" وأن لا يغفلوا أحداً. ولما تساءلوا مستغربين من عساهم يكونون "أسياد" البطريرك هؤلاء أجابهم: "أن الذين تدعونهم أنتم فقراء وشحاذين، هؤلاء أعلنهم لي سادة ومجيرين، لأنهم وحدهم القادرون على مساعدتنا، وهم الذين يمنحوننا ملكوت السماوات". وللحال انطلق الخدّام يبحثون عن "الفقراء الأسياد". ولما أنجزوا المهمة أتوه بلائحة فيها سبعة آلاف وخمسماية اسم. هؤلاء أمر يوحنا لهم بما كان مدخراً في صندوق البطريركية، ثمانية آلاف ذهبية وأن يتولى الشمامسة سدّ حاجاتهم من دخل البطريركية، يوماً فيوماً. فقط إذ ذاك دخل الكنيسة في موكب وتمّ تصييره بطريركاً.
هذا هو الرجل الذي تجاسر فضارع الله. خدمتنا الليتورجية تسمّيه "نهر عمل الخير الذي لا ينفذ". لم يردّ سائلاً أبداً. لم يكن القياس بالنسبة إليه أن يعطي إذا كان لديه بل أن من يرسله الله إليك يعطيك أن تعطيه لأن الذي قال: "كل من سألك فأعطه" (لو30:6) "ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" قال أيضاً "أسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم". هذه خبرها قديسنا في يومياته وخبر أيضاً أن من ترك بيوتاً أو أخوة... أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف... (مت29:19).
ولم يكن يوحنا ليميّز بين مستحق وغير مستحق. عطاؤه كان غير مشروط. جاءته مرة نساء يستجدين فأمر لهن بما أمر لغيرهن. ولكن كانت هؤلاء تتحلين بالعقود والأساور، فأثار الأمر لغطاً وسجساً بين الشمامسة فنقل أحدهم إلى القدّيس يوحنا واقع النسوة فكان جوابه بعدما رمقهم بنظرة فيها الحزن والتجهّم: "ما دمتم ترغبون في أن تكونوا موزّعين للعطايا فلا تعصوا القائل: "من سألك فأعطه". وإذا ما خطر ببالكم أن تتقصّوا خفايا الناس وتتحكّموا في أمورهم فلا نصيب لكم في هذه الخدمة".
إنصاف الناس عند يوحنا الرحيم كان قرباناً. لم يحسب نفسه مستأهلاً أن يرفع الخبز والخمر في سر الشكر قبل أن يرفع الضيم عن المظلومين. في طريقه مرة إلى الكنيسة دنت إليه امرأة ووقعت عند قدميه وصرخت بدموع: "أعني يا سيّد، فإن أخ زوجي لا يكف عن أذيتي والتضييق عليّ". فارتبكت حاشية البطريرك وقال لها بعضهم: "سينظر البطريرك في أمرك متى عاد من الكنيسة". فقاطعهم القدّيس قائلاً: "بل أنظر في أمرها الآن، وإلا كيف يصغي الله إلى صوت تضرعي؟ ثم من يدري إن كنت أحيا إلى الغد. فإذا ما شاء ربّي أن يردّني إليه فبماذا أجيب عن المرأة إن لم أنصفها؟". قال هذا وبقي حتى أنصفها. وبعد ذلك أكمل طريقه إلى الكنيسة مرتاح البال.
أولى القديس يوحنا القداس الإلهي أهمية بالغة وما كان ليطيق خروج الناس بعد قراءة الإنجيل أو تجمعهم في باحة الكنيسة واستغراقهم في الأحاديث البطالة. لهذا السبب كان أحياناً يخرج إلى خارج الكنيسة بعد تلاوة الإنجيل ويجلس هناك بين الشعب. وطبعاً كان تصرفه يثير استغراب الناس وتسألهم. فكان يقول لهم: "يا أولادي، حيث تكون الرعية فهناك ينبغي أن يكون الراعي أيضاً. ادخلوا إلى الكنيسة فأدخل معكم وإلا فسأبقى هنا معكم. لأني إنما أتيت إلى الكنيسة من أجلكم وكان بإمكاني أن أبقى في الدار البطريركية وأقيم الخدمة هناك لو كان الأمر يخصّني وحدي".
مما كان قدّيسنا يؤكده ولا يتسامح بشأنه ضرورة عدم الاختلاط بالهراطقة والامتناع، تحت أي ظرف، من الاشتراك في الكأس الواحدة معهم. وهذا ما كان يقوله: "إذا كان الله يحرّم على أي منا أن يخلي زوجته ويتزوج بأخرى، حتى ولو أقام طويلاً في بلد بعيد منفصلاً عنها، ويستدعي نقضه للنذر الذي قطعه على نفسه في الأساس عقاباً فكيف نفلت نحن من العقاب الذي ينتظر الهراطقة في الزمن الآتي إن لوثنا الإيمان الأرثوذكسي المقدّس بشركة زنائية مع الهراطقة؟ والشركة ندعوها كذلك لأن من هم في شركة واحدة لهم الأشياء مشتركة وهم متفقون فيما بينهم. لذلك أقول لكم لا تقربوا محافل الهراطقة لتشتركوا وإياهم في الكأس الواحدة".
أما رقاده فكان في مسقط رأسه، أماثوس، في قبرص. فلقد اشتدت، في ذلك الزمان، هجمات الفرس على البلاد المصرية وبدت الإسكندرية في حال سيئة. فتمنى نيقيتا الحاكم على البطريرك أن يزور القسطنطينية ليكون للمدينة المتملكة نصيب فيه أيضاً. وبعدما ألحّ عليه أذعن. ولكن، في الطريق إلى هناك حضره ملاك الرب قائلاً: "قم إلى رب السماوات والأرض فإنه يدعوك". فتوقف في أماثوس وكان قريباً منها. عاد إلى مسقط رأسه ليولد من جديد، ولكن، هذه المرة إلى ملكوت السموات.