القمص يوحنا نصيف
في نظَر أهل العالم، البطل هو الفارس الذي يركب على حصان، أو هو صاحب العضلات المفتولة، أو هو الشخص المشهور صاحب الإنجازات العظيمة، أو هو القائد صاحب السلطان والصوت العالي، أو هو مُحَطِّم الأرقام القياسيّة..
أمّا في المسيحيّة فالبطل هو القدّيس، وهو الإنسان المُحِبّ، وهو الشاهد بكلمة الحقّ.
أوّلاً: البطَل هو القدّيس:
القداسة مصدرها هو عمل الروح القدُس فينا.. فهي تأتي من عمق شركتنا مع الله.
القداسة تجعل الإنسان قويًّا متماسِكًا.. بعكس النجاسات والعبوديّة للشهوات، التي تجعل النفس مُمَزّقة من الداخل ومهزومة.
القدّيس هو إنسان يعيش الإنجيل.. وقد غلب الخطية، وكرّس حياته بصدق لله.. هو يسلُك بطهارة وتعفُّف، ويتوب كلّ يوم.. ويضع وصيّة المسيح أمام عينيه باستمرار..
لو لم يكُن مارجرجس قدّيسًا، ما كان ليحتمل كلّ تلك العذابات.. ولا كان يصمد أمام إغراء الفتاة التي جاءت لكي تصنع معه الشرّ؛ فرفضُهُ للخطيّة من داخل قلبه جعلَهُ في لحظة دخولها يعطيها ظهره، ويَقِف مُصلِيًا بقوّة لساعاتٍ طويلة، حتّى ذابت الفتاة من الحضور الإلهي، وقادها روح الله للتوبة، فأتت تحت قدميّ مارجرجس لتكون تلميذة للمسيح، وأسيرة لمحبّته، بعد أن تابت وتحرّرت من رباطات الخطيّة. وفي اليوم التالي، قدّمَت حياتها للاستشهاد، كذبيحة حُبّ للذي أحبّها واشتراها بدمه..! هكذا كان البطل مارجرجس يَقتنِص النفوس للمسيح بحياته المقدّسة.
ثانيًا: البطل هو الإنسان المُحِبّ:
المحبّة هي الطاقة الإلهيّة التي تملأ قلوب أولاد الله، فيخدمون ويسامحون ويبذلون إلى مستويات بطوليّة، إذ أنّهم يرتوون من محبّة الله بلا حدود. "نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أوّلاً" (1يو4: 19)، و"محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا" (رو5:5).
+ البطل الحقيقي هو الذي أدرك محبّة المسيح له، وكيف أنّه أخلى ذاته وتجسّم بلحمنا، لكي يُحيينا ويهبنا نِعمة التَبَنّي، فنصير وارثين لملكوته (رو8، غل4).. وقد شرّفنا بعضويّة جسده (1كو12)، وجعلنا أهل بيته (أف2)..
عندما يُشبِع الحُبّ الإلهي القلب، يستطيع أن يترُك أباطيل العالم بسهولة، ويُضحّي بكلّ شيء في سبيل الملكوت..
البَطَل هو الذي يقبل احتمال الآلام لأجل خاطر محبّة المسيح.. مُدرِكًا أنّنا إذا قبلنا أن نتألّم معه ومن أجله، فبالتأكيد سوف نتمجّد معه (رو8).. إذ أنّ خفّة ضيقتنا الوقتيّة تُنشئ لنا ثُقلَ مجدٍ أبديًّا (2كو4)..
لقد أدرك الشهداء أنّ الألم هِبة ونعمة (في1) يمكن أن نَدخُل بها لشركة آلام المسيح، ونُعَبِّر باحتمالنا للآلام وبتسامُحنا وبخدمتنا للآخَرين عن حبّنا له.. هكذا كان الشهداء أبطالاً في التسامُح والغُفران للذين كانوا يُهينونهم بقسوة، ويعذّبونهم بأشدّ أنواع التعذيب.. مثلما خرج التلاميذ فرحين بعد جلدهم بالسياط، إذ حُسِبوا مستأهَلين أن يُهانوا من أجل اسم يسوع (أع5: 41).
لكي نكون أبطالاً حقيقيّين، نحتاج أن ننمو في محبّة المسيح كلّ يوم.. والحُبّ ينمو بالتواصُل معه، وبالذات في صلاة المزامير، وبسماع صوته الحلو عندما نتغذّي بكلام الإنجيل، وبالتسبيح، وبالتناول من جسده ودمه المبذولَين حُبًّا فينا..!
ثالثًا: البطل هو الشاهد بكلمة الحقّ:
الواقع أنّ الشهادة للحقّ لا يستطيعها إلاّ الأحرار، الذين حرّرهم المسيح من رباطات الخطيّة، فيشهدون لإيمانهم بكلّ قوّة.. فالمحبّة للحقّ تُحَرّر من الخوف والقلق والمجاملات الكاذبة..
الشهداء كانوا أبطالاً في الشهادة للحقّ، ولم يَقبَلوا النجاة من أجل الثبات في الحقّ ولكي ينالوا قيامة أفضل (عب11: 35).. فاعترفوا بإيمانهم رغم كلّ الظروف المُعاكِسة..
هناك مصطلَح إنجيلي جميل عن الشهادة للحقّ، هو عبارة "الاعتراف الحسَن" (1تي6: 12-13).. وتَستخدِمه الكنيسة أيضًا في صلواتها.. ففي طقس المعموديّة مثلاً؛ نحن نجحد الشيطان ونعترِف "الاعتراف الحسَن"، أي نُقِرّ بإيماننا قَبل الدخول لجُرن المعموديّة.. كما اعترف الربّ يسوع أمام بيلاطس بهذا "الاعتراف الحسن"، مُعلِنًا له أنّ مملكته ليست من هذا العالم، وأنّ بيلاطُس ليس له سُلطان إن لم يكُن قد أُعطِيَ من فوق (يو18: 33-37، يو19: 8-11)، فهذه هي الشّهادة للحق؛ أنّ مملكتنا ليست من هذا العالم، وأنّ الله إلهنا هو ضابط الكلّ وصاحب السلطان.
أخيرًا.. الشهادة للحقّ ليس معناها التطاوُل على الناس، ولا تُعنِي التجريح أو التشهير أو التحريض أو الإدانة.. فالذين يفعلون هكذا بداعي حماية الإيمان أو الغيرة على الكنيسة أو تحت أيّ سِتار، هم يَسعون إلى اكتساب بطولات مزيّفة، محاولين اجتذاب أتباعٍ لهم، غير مُشفِقين على الرعيّة (أع20: 29-30). أمّا الإنجيل فيعلّمنا أن نقول كلمة الحقّ في وداعة ومحبّة حقيقيّة speaking the truth in love (أف4: 15).
البطل الحقيقي هو الذي يقول كلمة الحقّ مُعتَرِفًا بإيمانه مهما كان الثّمَن، أمّا الجُبَناء وغير المؤمنين فليس لهم نصيب في الحياة الأبديّة (رؤ21: 8)، وسينكرهم المسيح أمام أبيه السماوي وملائكته القدّيسين (مت10: 33).
ربّي يسوع: "لا تنزع من فمي قول الحقّ، لأنّي توكّلتُ على أحكامك" (مز119: 43 - القطعة السادسة من صلاة نصف الليل بالأجبية).