فاطمة ناعوت
حين تسمعُ صوت «فيروز» الآسر يشدو: «أنا لا أنساكِ فلسطين»، فى هذه الأيام الجحيمية التى تعيشُها فلسطينُ وشعبُها الصامد المستبسل فى وجه المحتلّ الإسرائيلى الدميم، لا تملكُ إلا أن تراقبَ كيمياءَ جسدك تتبدّل، وسنونَ الأشواك تَخِزُ روحَك، وخفقَ قلبِك يتزايد حتى تسمعَ وجيبَه يقولُ ما كتبه «سعيد عقل» على نغم الرحابنة: «سيفٌ فـ لِيُشْهَر فى الدنيا وتسطع أبواقٌ تصدع/ الآنَ الآن وليس غدًا/ أجراسُ العودةِ فلتُقرَع/ أنا لا أنساكِ فلسطين/ ويشدُّ يشدُّ بى البُعد/ أنا فى أفيائك نسرين/ أنا زهرُ الشوكِ أنا الوردُ/ سـ ندُكُّ ندُكُّ الأسوارَ/ نستلهمُ ذاتَ الغار/ ونُعيدُ إلى الدارِ الدارَ/ نمحو بالنارِ النار/ فلتسطعْ أجراسٌ تُقرَع/ قد جُنَّ دمُ الأحرار».
 
ما أوفقَ تلك الكلمات الماسّة مع اللحظة الراهنة؛ وكأنها كُتبت يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣!. وما أنصعَ قضية فلسطين وحق شعبها فى التحرر من غول الاحتلال الصهيونى!، ليس فقط أمام العرب، كما اعتدنا على مدار الخمسة والسبعين عامًا الماضية منذ قيام دولة إسرائيل نتوءًا شيطانيًّا على أرض فلسطين، بل أمام العالم بأسره!. تلك هى الثمرةُ الماجدةُ التى نحصدها اليوم وكان ثمنُها غاليًا؛ إذْ رُويت بدماء ١١ ألف شهيد فلسطينى حتى اليوم، نصفهم من الأطفال، ومازال رِىُّ الثمرة مُهرقًا إلى أجلٍ يعلمه اللهُ، نرجو أن يكون قريبًا.
 
الثمنُ غالٍ والرِّيُ طاهرٌ وعزيزٌ، لكنّ الثمرةَ تنضج يومًا بعد يوم حتى صار مرآها يسُرُّ الناظرين. شعوب العالم اليومَ تخرجُ إلى الميادين، ترتدى «الكوفية الفلسطينية»، ينددون بما تفعله إسرائيلُ الباغية فى الشعب الفلسطينى الأعزل؛ الذى لم يهُن ولم يستسلم على مدار خمسين يومًا فى ظل خرابٍ كامل وظلام حالك وتشريد وتجويع ومذابح لم تحدث فى تاريخ مدونة الإجرام العالمى. شعوبُ العالم الغربى كل يومٍ تخرج فى تظاهراتٍ حاشدة تدعم فلسطين وحقها فى وطن حرّ خارج أسوار الاحتلال الحاقد.
 
العالمُ الغربى، الذى كان يدعمُ إسرائيل طوال الوقت، بدأ يستفيقُ من غفلته التاريخية وينتبه إلى أن الحقَّ، كلَّ الحقِّ، ليس فى دعم المُحتَلّ الإسرائيلى (الفاعل، الذى اِحتَلَّ)، بل فى دعم المحتَلّ الفلسطينى (المفعول به؛ الذى اِحتُلَّ)؛ وما حيلتى والفاعلُ والمفعولُ من الفعل: «يحتلُُّ احتلالًا»، لهما نفس الحروف والتنضيد فى اللغة العربية: «مُحتلّ»!.
 
اصطفافُ العالم حول قضية فلسطين اليوم هو «ثمرةٌ فاخرة»، علينا أن نفخرَ بها ونحافظَ عليها ونستثمرَ فيها، لأنها ثمرةٌ عزيزة ضنّت علينا طويلا، إذ لم نستطع استنباتَها على مدى العقود منذ عام ٤٨، عبر عشرات الآلاف من المقالات كتبها مثقفون عربٌ، وآلاف الحوارات والسجالات التى انطلقت تدافع عن حق الفلسطينيين فى أرضهم، بل عبر حروب طاحنة خضناها ضد الكيان الصهيونى، كان دائمًا الجيشُ المصرىُّ الباسلُ فى طليعتها، وكان الدمُ المصرىُّ المُراق على ساحاتها هو الدم الأغزر.
 
ما أعجب القلم، وما أغربَ تصاريفه!. جلستُ إلى مكتبى وفتحتُ أوراقى وأمسكتُ قلمى لأكتبَ عن «فيروز»، وأقدّم لها التهنئة فى عيد ميلادها الذى حلَّ أمس الأول ٢١ نوفمبر، فإذا بى أكتبُ عن فلسطين وصمود شعبها الحرّ فى وجه الغول الإسرائيلى القبيح!.. وللقلم- كما تعلمون- سلطانٌ مستبدٌّ على الكاتب. القلمُ سيّدُ قراره. نجلس إلى الورق لنكتبَ ما نفكر فيه، فنجدُ القلمَ يكتبُ ما يهوى، فنستسلم له صاغرين!. ربما لأن القلمَ غالبًا يدرى عنّا أكثر مما ندرى عن أنفسنا. القلمُ يعلمُ همومَنا وأحلامَنا وشغفَ قلوبنا أكثرَ مما نعلمُ نحنُ!، وتلك عجيبةٌ من «عجائب الكلمة»، نَعجبُ لها، ونُعجبُ بها، ونرضى عنها، ونحبُّها.
 
والآنَ الآنَ أقفُ أمام قلمى بكل خضوع، أرجوه أن يترك لى ما تبقّى من كلمات قليلة فى هذا المقال، لأكتب شيئًا جميلًا، لا دماءَ فيه ولا حروبَ ولا صراعاتٍ ولا احتلال. أستأذنُه أن أكتبَ عما نويتُ أن أكتب عنه فى البدء: عن «فيروزة هذا العالم»، «فيروز».. فإن كان ثمّة شىءٌ فى الحياة جميلٌ إلى درجة أن تسامحَ من أجله كلَّ عذابات العالم، فهو بالتأكيد صوت «فيروز»، الذى يأخذك من دنيا الحروب والعنف والدماء والرصاص، إلى عالم طفولىّ نقىّ برىء لا يعرفُ إلا صدحَ العصافير وطنيَن النحل وألوانَ الفراشات وشذى الزهور.
 
عالم ينسى الأطفالُ فيه أن يكبروا حتى يظلوا أطفالا لا يعرفون المصالح ولا البرجماتيات. ففى مثل هذه الأيام الخريفية التى تخاتلُ بين الصيف بخيوطه الصفراء والشتاء بخيوطه الرمادية، قررت السماءُ أن تمنح الأرضَ، التى أغرقها الحَزَنُ والانكساراتُ والحروب، هديةً عذبةً.. فسقطت فوق كوكبنا الحزين غيمةُ قطرٍ عذب اسمها «فيروز»، مرّت فوق صحارينا العطشى، فبللت حلْقَها.
 
كل عام وأنت مشرقة يا فيروز، ونغنى معك: «الغضبُ الساطعُ آتٍ.. للقدسِ سلامٌ آتٍ».
نقلا عن المصرى اليوم