سحر الجعارة
افترض أنك الآن فى مدينة «بوردو» بـ«فرنسا»، تتابع الشيخ «طارق أوبرو» إمام المسجد الكبير، وهو داعية فرنسى من أصل أمازيجى وُلد بأغادير فى جنوب المغرب.. ويسمونه هناك بـ«فيلسوف الدين» أو «فتى النخبة المدلل».
إنه الرجل الذى أثار جدلاً كبيراً بسبب مقابلاته التليفزيونية وكتبه الجريئة (منها «ما لا تعرفون عن الإسلام»، «وظيفة إمام»، «إمام غاضب» و«حوار إمام وراهب»).. إنه الداعية الصادم الذى يبحث عما يسميه «إسلام ليبرالى»، ويدعو إلى «إسلام فرنسى تقدمى وشامل».
«أوبرو» مهموم أصلاً بـ«شريعة الأقلية»، فعمله ينصب أساساً على تفكيك مفهوم الشريعة الموروث، وصولاً إلى روحها وفلسفتها، وذلك لجعلها أكثر تجاوباً مع وضعية مسلمى فرنسا.. لكن طموحه تجاوز هذا إلى محاولة إدماج الإسلام والمسلمين فى شتى أنحاء الأرض فى الحداثة والدينامية التاريخية التى تعيشها الإنسانية.
الداعية الإصلاحى يرى أنه يمكننا المواءمة بين العلمانية والإسلام، لأن العلمانية نموذج سياسى فى حين أن الإسلام دين.. ويعتبر أن العلمانية جاءت أصلاً لتمنح حرية الأديان بما فيها الإسلام!
وهو يؤكد أن القول بأن الإسلام دولة خطأ لأن الإسلام دين (إن الدين عند الله الإسلام)، أما منهجية الدولة وشكل الدولة فـ«أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وبحسب جريدة «واشنطن بوست» الأمريكية فقد انتقد «أوبرو» الحجاب علناً، ودعا إلى الترحيب بالمسلمين المثليين، وساوى جوهر الإسلام بالفكرة الفرنسية الرئيسية لتحرير الإنسان.. ولم تتعامل أوروبا مع أفكاره على أنها «آراء شاذة».. بل على العكس ففى عام 2013 حصل على لقب فارس جوقة الشرف، وفى يناير 2015 تم اختياره من قبَل وزارة الداخلية الفرنسية مستشاراً خاصاً للحكومة بعد الهجوم على مجلة شارلى إبدو.. الأمر الذى قد يحرّض البعض على تصنيفه معادياً للإسلام لحساب «الغرب الكافر» وليس مجدداً.
يدعو «طارق أوبرو» إلى ضرورة التجديد الدينى على مستويين: المستوى الروحى والمستوى الفكرى، معتبراً أن المستوى الأول يتم بتجديد الإيمان والثانى بتجديد آليات قراءة النصوص وتفسيرها، وهو يقول: (وأنا أشتغل على مفهوم «الشريعة الإسلامية»، التى يظن الناس أنها تعنى تطبيق حرف النص كيفما اتفق، فى حين أن الشريعة هى موافقة مراد الله مع إنزاله على واقع معين). ويضيف «أوبرو»: (هناك شيئان لا يتجددان: القرآن والسنة، وأما ما يتجدد فهو استنباط المنهجية منهما ومن العقل ومن الآفاق والأنفس).
وقد خصص فى كتابه الأخير فصلاً عن «الزمن القرآنى والبيداغوجية القرآنية»، ملخصه أن القرآن -فى نظره- يعرض علينا قيماً كونية مثل العدالة والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية، وقد تُرجمت هذه القيم إلى أحكام فى حدود ما كانت الثقافة تسمح به أو تفرضه خلال الزمن القرآنى.. ويستشهد «أوبرو» ببعض النصوص التى تؤكد ارتباط النص القرآنى بظروف التنزيل، ومنها آيات الرق.
أما «الفتوى»، كما مارسها «طارق أوبرو»، لسنوات فهى فى رأيه: «نمط من أنماط التفاوض الذى يقوم بين الشريعة وبين الواقع بغية الحصول على صيغة وعلى صورة للحكم الفقهى تكونان الأكثر صحة من جهة الإمكان أو أكثر مناسبة للواقع».
هذا الرأى ينسف عملية تقديس الأئمة، ويجعل قانون ازدراء الأديان «باطلاً»، وقد يصل الأمر بعلماء الإسلام إلى تكفير الرجل والمناداة بإهدار دمه.. واغتياله مهمة سهلة على التنظيمات الإرهابية التى اخترقت أوروبا. إنها نفس الأزمة التى عانى منها «إسلام بحيرى»، فكلما ازدادت شهرتك ووصلت آراؤك للعامة أصبح قتلك حلالاً، ولهذا يقول «طارق»: الإسلام «يعانى من المسلمين ورواده وأئمته» أكثر مما يعانى من غيرهم!!
أنا مقتنعة تماماً بأن 300 حديث ضعيف كفيلة بخلق دين مختلف فى دولة مسلمة تؤمن بها وتطبقها ودولة أخرى لا تعمل بها، وأن الثقافة السائدة تتحكم فى تفسير النص القرآنى وفتاوى الحلال والحرام.. (قس على ذلك زرع الأعضاء وفوائد البنوك، وزواج المسيار).
لقد تعمدت أن أبتعد عن معالجة «طارق أوبرو» لأوضاع المسلمين فى أوروبا، فيكفى فى هذا الصدد الإشارة إلى مجهوده فى تنقية وجه الإسلام من علامات العنف والإرهاب: (العنف ليس سببه الدين بل الفقر والظلم وغياب الحريات والتدخلات السافرة للغرب لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، مثل تدخل أمريكا فى العراق).
فقط أحببت أن أقدم لكم مجهود داعية إصلاحى فى بيئة ملغمة بكراهية الإسلام. تتفق أو تختلف معه هذا حقك، لأن حرية الاختلاف من جوهر الإسلام.. وقد يدفع «طارق أوبرو» حياته ثمناً لاجتهاده، لأننا نحترف صناعة الأعداء وتأليف المؤامرات ونختصر الإسلام فى (ذقن وحجاب)، ونعيش فى كهف مظلم خوفاً على هويتنا الروحية والدينية!
نقلا عن الوطن