القمص انجيلوس جرجس شنودة
كل سنة وحضراتكم طيبين بمناسبة بدء صوم الميلاد، والأصوام دائماً هي بداية جديدة للتوبة، ونحن في زمن غربلة علي كل المستوايات، فقبل أن يسلم ربنا يسوع المسيح نفسه علي الصليب، ويقدم ذاته، ويصنع الخلاص والصلح قال لتلاميذه: " هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم" (لو 31:22).
وقال لبطرس: " طلبت من أجلك كي لا يفني إيمانك" (لو 32:22)
ولكن سقط من هذا الغربال أحد الأثني عشر تلميذاً، فقد أختار أثني عشر تلميذاً فقط واعطاهم سلطان، وأعطاهم نعمة وقوة، وأحدهم سقط في فترة الغربلة، وأيضاً ستكون هناك غربلة في هذا الزمن الذي يسبق مجئ المسيح في نهاية الأيام ـ وأعتقد أننا في هذة الفترة حالياً ـ لأنه يقول:
" الويل لسكان الأرض، لأن إبليس نزل إليكم وبه غضب عظيم عالماً أن له زماناً يسيراً" (رؤ 12:12).
وغضب إبليس هو مرحلة يقول عنها سفر الرؤيا (أن الشيطان ينفك قيده) وهذا معناه أن الشر يزداد جداً، ويقول لنا ربنا يسوع إنه قبل مجيئه سيكون هناك كم حروب وأوبئة ومجاعات وأمراض، ولكن يقول أيضاً:
" عله حينما يأتي يجد الإيمان علي الأرض" (لو 8:18).
وفي عصرنا نلحظ أن الشيطان قد جمع كل قدرته ليعيد مرة أخري كل أفكاره النجسة الهرطوقية، يصنع أفكاراً كنا نظن أن الكنيسة قد أستراحت منها، حتي الوثنية يعيد إنتاجها بصورة أخري، فنري أن هناك من يدعو إلي دين يدخل فيه الطبيعة الجامدة، ويدخل فيه الإنسان مؤلهاً، ونجد أيضاً من يحاول أن يشكك في الكتاب المقدس من داخل الكنيسة، كنا نظن أننا نواجه هذة الأمور فقط من خارج الكنيسة، ولكننا في هذا العصر أغلب الهرطقات من الداخل، فقد أستطاع الشيطان أن ينفذ بأفكاره داخل عقول تحمل رتب كنسية، ويشكك في الكتاب المقدس، وفي القداسات، وفي المزامير، وفي كل وقت نسمع إنتاج هذة الأفكار الشيطانية، هذة الأيام يوجد من يشكك في صلاة المزامير في القداس، ويشكك في الهتينيات، وفي الطقوس، كل هذا عمل الشيطان، يحاول أن يشككنا فيما تسلمناه من إيمان، يبدأ بالأمور التي نظن أنها مستقرة في الكنيسة، ليصل في النهاية أن كل ما تسلمناه يتم تشكيكنا فيه.
لذلك يجب علينا نحن الذين لنا إيمان واثق كما يقول بولس الرسول:
" لأني موقن بمن آمنت" ( 2تي 12:1) أن ما نحياه هو ما تسلمناه، فيجب علينا جميعاً أن نتمسك بهذا الإيمان، ونقف ضد حملات التشكيك والتغير سواء علي مستوي العقيدة أو الهوية، لأنهم يريدون أيضاً أن يغيروا في هوية كنيستنا، ويدمجوها في كيانات أخري ليست لها نفس الإيمان، وليست لها نفس الروح، وليست لها نفس قوة العقيدة، حتي تذوب هوية كنيستنا في تلك الكيانات الأخري، ثم يستطيع الشيطان أن يُعلن نفسه إنه هو ملك تلك الكيانات، فنكون نحن قد دخلنا في كيانات شيطانية.
نحن لا نتمسك بكنيستنا تعصباً، ولا نتمسك بكنيستنا تحزباً، ولكننا نتمسك بكنيستنا ونحن مدققين في كل شئ، ما تسلمناه لم يكن مجرد تسليم من أب لإبن، ولكنه كان موضع بحث وتأملات في أزمنة كثيرة، نحن تسلمنا تراث عميق كبيرعلي مستوي الفكر والروح، وعلي مستوي الحياة المسيحية.
وصوم الميلاد هو أحد الأصوام التي تسلمناها، وإن كان بعض الأصوات تنادي بأن الصوم لم يكن من أيام الرسل، والحقيقة لقد كانت حياة الرسل كلها أصوام، يقول بولس الرسول:
" وانتخبنا لهم قسوساً في كل كنيسة، ثم صليا بأصوام " ( أع 23:14)
وقد وضعت الكنيسة للشعب بعض القوانين التي تحفظ معايشتنا للأمور العقائدية واللاهوتية وتحفظ أيضاً إمكانيات القداسة بالتوبة الدائمة.
وصوم الميلاد وإن كان أخذ أشكال في طقسه عبر الزمن، ولكنه منذ أيام الرسل وكانت الكنيسة تصوم قبل كل شئ:
قبل وضع اليد، قبل الأعياد، وتصوم في كل التذكارات التي عاشتها الكنيسة.
لذلك فقد أستقر صوم الميلاد في الكنيسة، والذي نجد فيه بعض الإشارات من القرن الثاني. أما الصوم بوضعه النهائي فقد وضعته الكنيسة ضمن أصوامها، ووضعته الكنيسة أيضاً بترتيب مرتبط بالتسبيح في شهر كيهك.
تصوم الكنيسة صوم الميلاد 43 يوماً، و40 يوماً كما أستلم موسي النبي الكلمة والشريعة علي لوحي العهد بعد 40 يوماً صوماً فوق الجبل. نحن أيضاً نعيد هذة الفكرة بتذكار ربنا ييسوع المسيح الكلمة المتجسد، فنصوم أيضاً 40يوماً.
والثلاثة أيام: فقبل صوم الميلاد حينما طللب المعز من البابا آبرام ومن الشعب القبطي أن ينقلوا جبل المقطم وإلا سيفني الأقباط، فصامت الكنيسة وكان القديس سمعان الخراز هو الذي أختارته السماء ليقود الشعب في تلك المعجزة، وأنتقل الجبل، وحتي نشعر بأن الكنيسة تحمل قوة جبارة تنقل الجبال، وضعت الثلاثة أيام مع صوم الميلاد كوضع تاريخي، حادثة صارت قبل صوم الميلاد، ولأننا نُدرك أن الصوم ينقل جبال الخطايا أيضاَ، يقول عنه ربنا يسوع المسيح:
" هذا الجنس لا يخرج بشئ إلا بالصلاة والصوم" (مر 29:9).
وهذة فكرة مهمة أن الصوم حينما يقترن بالصلاة يقترن معه الجهاد بالنعمة، نحن جهادنا لأجل التوبة ولأجل التقديس، ولا يشبه جهاد ديانات شرق آسيا الهنود والبراهمة والفرس، هو جهاد ذاتي، فجهادهم في صومهم وأعمالهم النسكية يظنون أنه بتلك الأعمال يتقدس الجسد ويكونوا مستنيرين لقبول قوة إلهية، أما نحن فنؤمن بأننا نأخذ النعمة بالمسيح وبعمل الروح القدس، ولكن الصوم هو إعلان الإرادة.
" الصوم والصلاة يخرجان الشياطين" لأن ذلك معناه إمتزاج الجهاد بالنعمة، فنحن لا نصوم أصوام خاصة بالجسد فقط، ولا نقدم جهاد إنساني، ولكننا نصوم بجهاد ينادي النعمة، فالصوم صرخات جسد تطلب من نعمة الله أن يحل روح الله، وتحل نعمته فينا. فالصوم إذن هي صرخات تصرخ لتطلب النعمة.
والكنيسة في أصوامها تقدم صلوات مختلفة، ففي هذا الصوم تقدم الكنيسة صلوات تسبيح بفرح لأجل التجسد.
والصوم ليس فقط تغير أطعمة، فأحياناً نحرص كثيراً علي تغير الطعام، أكثر ما نحرص علي تغير الشر، أحياناً نحرص كثيراً أن نغير نوعية الأكل دون أن نغير قلوبنا.
ـ يقول القديس يوحنا القصير:
" كن جادا في صومك لتغلب الأعداء الذين يهاجمون روحك"
لذلك فالكنيسة تنبهنا ألا نصوم فقط صوم معدة، لأبد أن تصوم عن أفكار الشر، لأبد أن تصطلح مع أخوك، إن كان في حياتك هذا الضعف أنك تكره وتخاصم، لأبد أن يصوم جسدك إن كان ساقط تحت سلطان الشهوة، لأبد أن يصوم قلبك عن أن يحقد أو يدين الآخر، لأبد أن تصوم عينيك عن رؤية الأباطيل.
ـ ذات مرة كان هناك راهب شاب يحارب بالزني، في عصر الأنبا بيشوي االقديس الكبير، وقد طلب من الأنبا بيشوي أن يصلي من أجله، فوقف الأنبا بيشوي وصلي، وبعد فترة طلب هذا الراهب أن يصلي له الأنبا بيشوي أيضاً، فظهر له الشيطان وقال له: أنا تركته منذ أن توسلت إلي الله من أجله، أما هو فإنه يحارب نفسه إنه يأكل ويشرب وينام كثيراً.
فلا تظنوا أن الشيطان فقط هو محرك الشر والخطية. أحياناً تتحرك الخطية من الداخل دون أن يثيرها الشيطان فينا. الشيطان يحارب الأقوياء، أما الضعفاء فإنهم يحاربون أنفسهم.
ـ كيف تتغلب علي الضعف؟
بالصلاة والصوم والجهاد.
ـ تقول أن حياتك كلها ضعف وسقوط، وتاريخي كله خطية.
ـ أقول لك: وإن كانت حياتك فتيلة مدخنة، وإن كانت القصبة مرضوضة، لا يوجد إلا قشرة بسيطة، ولكن في داخلك إرادة حقيقية، هو يأتي ويخلصك.
"فتيلة مدخنة لا يطفي، وقصبة مرضوضة لا يقصف" (مت 20:12)
"من يقبل إلي لا أخرجه خارجاً" (يو 37:6)
إن وجدت الضعف في داخلك، قدم صوماً وصلاة، وأنطرح أمامه، وأمسك في هدب ثوبه كما مسكت المرأة نازفة الدم، أنحني أمامه دون بكبرياء، بل بإنسحاق، كما أنحنت أمامه المرأة الخاطئة، إغسل قدميه بدموعك، كما غسلتها المرأة الخاطئة في بيت الفريسي، أصرخ كما صرخ زكا، أصرخ كما صرخ الأعمي "أرحمني يا ابن داود" (لو 38:18) ولأبد أن تثق إنه سيأتي اليوم الذي يخلصك فيه، إن كنت حقيقة لك هذة الإرادة، حينما نصوم يجب أن تكون عيوننا مثبته علي المسيح، يجب أن نصرخ إليه لأنه يشفق علينا ويشفق علي الخاطئ" إنه لا يريد موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا" (حز 11:33)
وقد أعتادت الكنيسة أن تعلمنا أن مواسم الصوم هي مواسم توبة، هي التي فيها تكون السماء مفتوحة، وتقبل توبة جماعية من الشعب المسيحي.
ـ يقول الأنبا أرسانيوس معلم أولاد الملوك:
" أتريد يا حبيبي أن يحل روح الله عليك، فلتكن لك مخافة الرب، نق قلبك، ولا تشفق علي جسدك من يوم واحد من الصوم، وعندما يري الله إستقامة قلبك سيرسل لك روحه القدوس إليك يصير هو مرشدك ومعلمك، وسيلقنك كل ما يرضيه".
لا تستخسر يوم صلاة وصوم، ولا تشتكي أن مدة الصوم طويلة، لا تقل أن الصوم يرهقني جسدياً، بل أنظر إلي جسدك وقل أنها أيام وسيتحول إلي تراب، فليتنا نجعل من هذا الجسد إمكانية وجود القداسة، بدلاً من أن يأخذنا الجسد إلي الجحيم بتدليله، وعدم دخوله في شركة القداسة.
لإلهنا كل مجد وكرامة إلي الأبد أمين