قصة قصيرة - أحــمــد الــخــمــيــســي
من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . توقفت منذ شهور طويلة عن شراء الصحف ، جميع الصحف . لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع بيانات الاحتجاج السياسي ، توقفت عن الكلام فيما يحدث حولنا . صرت أتسقط أخبار الأحداث المهمة من أفواه معارفي خلال المكالمات الهاتفية ، أو اللقاءات التي تحدث بالمصادفة في شوارع المدينة. القصف اليومي لمدن فلسطين أحالها لشجرة عيد ميلاد تزينها بيوت صغيرة تتوهج نوافذها بالموت، وجعلني أقول لنفسي لاشيء يتغير إلي الأحسن . أحيانا نادرة كان الأمل يتواثب وينقر شباكي ، فأهمس لروحي أنني مخطئ ، ولابد أن ثمة ما يتحرك نحو الأحسن ، لكن ما أن يبدأ القصف من جديد حتى يفر الأمل بجناحيه الرقيقين مذعورا من الدوي والدخان الأسود . يوما بعد يوم توقفت عن متابعة أي شيء ، لكنني بحكم العادة المتأصلة كنت أفتح التلفزيون من وقت لآخر أكتفي بمشاهدة مقدمة نشرة الأخبار التي تستغرق نصف دقيقة ، أشاهدها بروح عدائية مثل شخص يدافع عن نفسه ضد الأنباء السيئة ، وخلال نصف الدقيقة تلك تتدفق نعوش الأطفال الفلسطينيين إلي الشاشة، مثل ماء رفعت عنه السدود مرة واحدة ، من شاشة التلفزيون إلي المنضدة وإلي أرض الصالة في بيتي ، نعوش صغيرة ، تهرول نحوي مرفوعة على أكتاف ورؤوس الآباء المحنية وتختبيء تحت الأرائك والمقاعد قبل أن تشن عليها غارة أخرى . أغلق التلفزيون بسرعةوأندم أنني فتحته . لكن أكوام الأطفال التي تسربت من الشاشة تكون قد شغلت كل فراغ في شقتي . يتطلعون إلي ببراءة وعتاب، برجاء أن أغفر لهم أنهم احتموا بمنزلي من غير استئذان ، وشغلوا كل مساحة شاغرة بين قطع الأثاث في الصالة وفي الردهة الممتدة نحو الحمام والمطبخ وفي غرفتي النوم والمكتب . أقف مكاني مرتبكا ، لا أدري ماذا بوسعي عمله. يطمئن الأطفال في قمصانهم الحمراء قليلا ، ويستريحون من الجحيم ، يألفون المكان ، ولا يغادرون شقتي ، لأن الدنيا في الخارج مرعبة . أنهض من مقعدي لأمضي إلي حجرة النوم فيتحركون في أعقابي مثل سرب من البط الأبيض، يتعثرون ما بين قدمي برؤوس مشجوجة ، فوق كل رأس منها شريط معقود من قماش أبيض يربط الفك السفلي لكي لا يتدلى ساقطا في الهواء .  

صفوف من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ شهور طويلة ، وتتبعني كأنما تخشى أن تفقدني ، تتنقل ورائي من حجرة لأخرى ، تسارع بالتكدس حول قدمي في المطبخ ، وحين أهم بمغادرة المسكن يقف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة صفوفا ، يمط رقابه النحيلة الطويلة لأعلى، يتفحصني بصمت ، ينحرف برأسه قليلا ، ومنقاره السفلي مربوط بقطعة القماش إلي رأسه ، يتطلع إلي ، لايدري إن كنت سأعود إليه أم أنني سأتخلى عنه .

أرجع في المساء ، وقبل أن أفتح باب الشقة أسمع صوت اصطفاق الأجنحة وراء الباب ، أفتح وأدخل بين خفق أجنحة البط الأبيض، وفي جو الصالة يضطرب الصياح ، وتسبح عيون مغلقة ، وكراسات ، وأقلام ، وصنادل صغيرة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا نحو حجرة المكتب، والصفوف تتدافع ورائي ، أتوقف أمام مدخل الحجرة ، وألوح لها بيدي لكي ترجع، أريد أن أصيح فيها ، لكنها تظل واقفة ، صامتة ، لاتحيد بعيونها عن وجهي وكتفي وصدري .  

في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في حجرة نومي ، ينعس على صوان الملابس ، وأعمدة الستارة ، وحافة النافذة ، وأطراف سريري ، فإذا حركت ذراعي أو تقلبت على جنبي ارتطمت به ، أنظر إليه ، فيحدق في بصمت ورهبة وأمل .

منذ زمن يلازمني شعور مضن أن على أن أعيد تلك الكائنات البيضاء الصامته إلي هيئتها الأولى ، إلي بشراتها الغضة ، وأمهاتها ، ووقفاتها أمام فاترينات محلات الألعاب . أقول لنفسي على بكل ما أوتيت من قوة أن أفك السحر الذي ربطها في صورتها هذه . ولم أكن أدري ما العمل . أتجه كل يوم إلي عملي في مكتب البريد، أملأ استمارات التحويلات المالية من مدينة لأخرى ، وأسمع الناس يخاطبونني كأن أصواتهم قادمة من تحت الماء ، ودوي القنابل يطغي على كل شيء . لكنني أسد أذني وقلبي بإحكام لكي لا أرتكب غلطة في عملي ، وأستمر في توقيع الأوراق، وفي الظهيرة أغادر المكتب وأتجول في الشوارع القريبة قبل أن أتجه لمنزلي . أعود ، أفتح الباب ، وأنا أعلم مقدما ما ينتظرني . الأجنحة البيضاء التي تضرب في الهواء ، والريش الخفيف المتطاير في الجو ، وتلك النظرات ، والمناقير المربوطة بقطع القماش . يواتيني شعور أنني لم أكن في العمل ، لكنني كنت أفر من كل هذا ، مثل جندي تسلل من موقعه في تل مشتعل إلي غابات بعيدة . يعزيني البعض بأن الحياة مهما كان لا تتوقف. لكن لماذا أحس بهذه المرارة وأنا في عملي ؟ أو حين ألتقي بالأصدقاء القلائل؟ أو عندما أشرب كوب ماء وأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلي بنظرة مبهمة ؟ أحدق فيها هاتفا - وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي يلقي بالقنابل على الأطفال؟!

منذ زمن طويل توقفت عن متابعة كل ما يحدث . كل ما يشغلني الآن هو صفوف البط الأبيض التي تواصل نموها في مسكني ، وتتخبط حولي ، وتمنعني من التنفس أو تناول الطعام براحتي . الآن وقد حل منتصف الليل نهضت  وربطت فكي السفلي بأعلى رأسي بقطعة قماش أبيض، ووقفت متجمدا بين الصفوف البيضاء ، ورفعت في الضوء الباهت رقبتي النحيلة لأعلى ، ومشيت معها في الحجرات الفارغة ، أحجل بصمت ، على أمل أن تدق الباب علينا يد بشرية .
...
٢٩ نوفمبر التضامن العالمي مع فلسطين