مدحت بشاي
أتصور أن هناك حالة إجماع لدى كل سكان المعمورة وهم يتابعون مشاهد الإعدام الجماعى البشعة على أرض غزة، على أن يطرحوا سؤالًا واحدًا: هل يمكن أن يموت الضمير الإنسانى إلى هذا الحد الهستيرى لدى متخذ قرار إشعال تلك الحرائق في النفوس؟.. ومن قرر إسالة نزيف الدماء الفلسطينية دون رحمة؟.. ومن استباح قهر المرضى في المشافى؟.. ومن مارس بقساوة قلب اغتيال براءة الأطفال في مدارسهم وملاعبهم؟.. ومن حوّل أحلام الآباء والأمهات إلى كوابيس الفقد تصاحبها ولولة الثكالى وصراخ اليتامى، بدون أي تفكير في التراجع؟!.
وللأسف، وحتى على مستوى التعاملات اليومية في دنيانا اليوم بين الناس في الشارع في حالة السلم، باتت ظاهرة موت الضمائر في لحظات الغضب مؤرقة ومخيفة في أشكالها ونتائجها.
بالأمس القريب، تابعنا اعتداء أصحاب محل بقالة على متشرد حاول الحصول على علبة «كانز» عنوة، وضربوه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة على باب المحل دون رحمة ودون تدخل أحد لإنقاذه!.. وصيدلى يخرج من صيدليته متعقبًا مواطنا خطف الدواء لضيق ذات اليد وهرول لينقذ زوجته المريضة في المستشفى، وإصرار الصيدلى على تسليمه للشرطة!.
ومن منا يمكن أن ينسى النهاية المفجعة لحياة المواطن محمد عيد «فقيد التذكرة»، الذي لقى مصرعه تحت عجلات القطار رقم 934 مكيف الإسكندرية، عندما طلب منه محصل القطار القفز منه برفقة صاحبه لعدم سداد ثمن التذكرة.
واليوم، أدعو رموزنا الدينية وكل أصحاب القرار في مؤسسات التنشئة والتعليم وأهل إبداع كل الفنون لتأمل ما كتبه مواطن في ذكرى وقوع ذلك الحادث، وكان قد أربكه وأحزنه ما حدث لفقيد التذكرة، فكتب عبر حسابه الرسمى على «فيسبوك» بحروفه البسيطة العامية الطيبة ودون تدخل من العبدلله: «يا ترى فكروا في إيه قبل ما ينطوا من القطر، أكيد كانوا مرعوبين وجسمهم بيترعش ورجليهم مش شايلاهم، يمكن فكروا إنه هيهدى سرعة القطر عشان ينطوا، ماهو مش معقول هيقتلهم، ده زى أبوهم، وأكيد عنده عيال زيهم، يمكن فكروا يرجعوا ويتسلموا للبوليس وبعدين خافوا من البهدلة، أو فكروا إن ربنا هيستر والأرض هتبقى حنينة على جسمهم.
يمكن فكروا إنه أكيد هو عارف مش هيحصلهم حاجة عشان هو رئيس القطر وأكيد عمل ده قبل كده.. يمكن صرخوا وولولوا وباسوا إيده وقالوا: آخر مرة ياعم، ارحمنا ياعم إحنا زى ولادك وابتدوا ينادوا ع الركاب الحقونا يا ناس.. يمكن ويمكن ويمكن.. لكن لا يمكن يكونو فكروا إنهم هيموتوا وإلا مكانوش نطوا».. وتابع المواطن الفسبوكى: «ياترى ضمير المحصل ده مات ساعتها، كان بيفكر في إيه، كان غضبان وعايز يخلص من اتنين دخلوا منطقته بدون إذن، ولا كان بيعلمهم الأدب عشان ميعملوش كده تانى.. يمكن المحصل ده كان شايف إنهم مجرمين وعايز يريح الناس منهم، وبالمرة يريحهم من الشقا.
يمكن دى مش أول مرة ومتعود يعمل كده وعشان كده قال للناس اللى لامته بعد ما نطوا (فى ستين داهية).. يمكن كان قرفان من عيشته وكان بيفكر ينط هو كمان.. يا ترى زقهم بإيده ولا هددهم بس؟.. كان نفسه يموتوا ولا يتبهدلوا بس ولا مكنش فارق معاه أصلًا وكل همه إنه يخلص منهم؟!»، مضيفًا: «والركاب.. هل كانوا خايفين وكل واحد ماسك تذكرته في إيده.. تذكرة نجاته؟.
يمكن قالوا إحنا مش زيهم إحنا معانا تذاكر وهما مش معاهم، أو قالوا أحسن يستاهلوا هما إيه اللى جابهم هنا، هل حسوا بالعجز قدامه وإن مفيش في إيديهم حاجة لأنه عاوز كده.. هل فكر حد يدافع أو يحمى أو ينطق وبعدين خاف؟.. هل اتفاجأوا وملحقوش يفكروا.. وبعد كده، يا ترى حسوا بالذنب لأنهم سكتوا؟ يا ترى غضبوا.. بكوا.. أو انفعلوا؟.. يا ترى بيحكوا عن اللى حصل إزاى؟!».
ألا تشير مثل تلك الأسئلة، وما طرحه خيال المواطن، ومثل تلك الأحداث وردود أفعالها لدى مواطنينا، إلى حالة تراجع للضمير الإنسانى والشخصى الذي يبدو أنه ما عاد يوقظ الناس ويحرك مشاعرهم بالقدر المعقول والمقبول؟!.
ومنذ قرن من الزمان، ينبهنا إلى ذلك الدكتور طه حسين ـ الذي نعيش تلك الأيام مناسبة ذكرى رحيله ـ إلى حال الضمير المصرى، قال: «يظهر أن في الضمير المصرى شيئًا مِنْ قَلَق يحتاج أن يُعْنَى به الذين يُهِمُّهم أن يكون الضمير المصرى راضيًا مطمئنًّا وآمنًا مستريحًا، فقلق الضمير مصدر شَرٍّ كثير، أيسره فتور العزم، وكلال الحد، والتردد بين الإقدام والإحجام حين تقضى ظروف الحياة أن نختار بين الإقدام والإحجام.
ويكفى أن نلاحظ الفرد ذا الضمير القلِق والنفس المضطربة، لنعلم أنه لا يصلُح لشىء حتى يُردَّ إلى ضميره الاستقرار وإلى نفسه الاطمئنان، فكيف إذا كان هذا القَلَق شائعًا وهذا الاضطراب شاملًا؟ وكيف إذا أحسَّ الشعب أنه لا يستطيع أن يَثِقَ بشىء، ولا أن يَرْكَن إلى شىء، ولا أن يُقْدِم عن بصيرة، ولا أن يُحجِم عن رويَّة، ولا أن يَحْكُم على الأشياء والأحياء حُكْمًا يَصْدُر عن التدبُّر والتفكير؟!».
رحم الله عميد الأدب العربى طه حسين.. ولا أروع من أبيات الشاعر العربى الكبير «نزار قبانى» التي نظمها في رثاء مفكرنا العظيم:
ضوء عينيك أم هما نجمتان.. كلهم لا يرى وأنت ترانى
ألق نظارتيك ما أنت أعمى.. إنما نحن جوقة العميان.
نقلا عن المصرى اليوم