د. سامح فوزى
لا تزل غزة تبحث عن مشهد النهاية، الذى لا تعرف إسرائيل شكله النهائى بعد. فقد ارتضت الهدن الإنسانية المتوالية لتخفيف الضغط داخليا بالافراج عن الرهائن، وتهدئة الغضب الدولى خارجيا، والدول التى منحت إسرائيل غطاء للعمليات العسكرية الوحشية، لم تعد قادرة على مواصلة تبرير العقاب الجماعى الذى تمارسه القوات الإسرائيلية فى قطاع غزة تحت لافتة الدفاع الشرعى عن النفس، خاصة أن استئناف العمليات العسكرية فى جنوب غزة سوف يٌوقع آلاف القتلى والجرحي.
وقد توقعت إسرائيل منذ البداية أن الغطاء الدولى للعمليات العسكرية لن يطول أمده. ذكر ذلك صراحة إيهود باراك، رئيس الوزراء الأسبق، وتوقع أن تنفض دول العالم تباعا عن الدعم المطلق لبلاده، باستثناء الولايات المتحدة. ولكن الحليف الأمريكى لا يريد مزيدًا من الضغوط الدولية، التى ناله قسط وفير منها. وتتبع إدارة بايدن نهجًا مختلفا بعض الشيء عن إدارة أوباما فى أزمة غزة 2014، فهى تؤيد إسرائيل بقوة، وتردع إيران عن التدخل من خلال أدواتها العسكرية، وتغلق الباب أمام أية إدانة لإسرائيل فى مجلس الأمن، وفى الوقت نفسه تمارس ضغوطا عليها، نجحت على الأقل فى إجبارها على دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وتغيير خطط العمليات العسكرية بعض الشيء، وقبول الهدنة الإنسانية، والتى تراهن أن تمتد، وتظهر نتائجها، مما يفتح الباب أمام مفاوضات وقف شامل لإطلاق النار. وهو ما تطالب به دول عديدة، من بينها الصين.
وباتت المواقف الأوروبية تميل أيضا إلى إنهاء الحرب. فلم تعجب زيارة دافيد كاميرون، وزير خارجية بريطانيا لاسرائيل الساسة هناك، لأنه أكد فى تصريحاته أن اسرائيل يجب أن تلتزم بالقانون الدولى الإنسانى، وأن عدد الضحايا مرتفع جدا. دفع ذلك الكاتب البريطانى ستيفن بولارد، الذى كان لفترة طويلة رئيسا لتحرير صحيفة يهودية أسبوعية فى لندن، أن يتهم- فى مقال له- الخارجية البريطانية بتقويض إسرائيل، معلنًا انتهاء دعم بريطانيا الواضح لإسرائيل فى الدفاع عن نفسها.
إسرائيل فى رغبتها المعلنة استئناف العمليات العسكرية، بلا هوادة، على حد تصريح أحد قادتها العسكريين، تقف فى مواجهة العالم الذى يتحدث عن الهدنة الإنسانية، ويتطلع لوقف إطلاق النار، ولكن المسألة أكثر تعقيدًا.
فمن ناحية أولى أخطأ نيتانياهو، فى رأى تامير باردو رئيس الموساد السابق، حين أعلن بعد أحداث 7 أكتوبر، أن اسرائيل تواجه «تحديا وجوديا»، وهو نفس ما فعله الرئيس بايدن حين أعطى الانطباع نفسه، وقال مخاطبا القيادات اليهودية الأمريكية «لن يبقى يهودى فى العالم ما لم تبق الدولة اليهودية» فى حين أن إسرائيل لم تكن أمام خطر وجودي. الآن نيتانياهو مُطالب بالإجابة: كيف يواجه الخطر المصيرى، ومتى يُعلن انتهاءه؟
من ناحية ثانية وضع نيتانياهوثلاثة شروط قد لا يستطيع تحقيقها، وهى إنهاء وجود حماس، وتحرير الرهائن، وإزالة أى تهديد أمنى مستقبلى من غزة على اسرائيل. بعد خمسين يوما من قصف وحشى خلف نحو عشرين ألف قتيل بمن فيهم تحت الأنقاض، وعشرات الآلاف من الجرحى، والدمار فى غزة، لم تقض اسرائيل على حماس، بل على العكس تتفاوض معها لتحرير الرهائن، رغم أن نيتانياهو رفض ذلك الطرح فى بداية العمليات العسكرية، وليس هذا فحسب، بل اتسع نطاق التهديد الأمنى ليشمل البحر الأحمر، والتوترات على الحدود اللبنانية.
ومن ناحية ثالثة فإن إسرائيل لا تريد أن تعود السلطة الفلسطينية إلى غزة، لأن ذلك سوف يفتح باب الحديث عن حل الدولتين، الذى ترفضه، وكان وجود حماس فى غزة السنوات الماضية كفيلا بإجهاضه. الآن يتصاعد الحديث عن حل الدولتين بعد عقد من توقف المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ويصر نيتانياهو، وحكومته اليمينية المتشددة، على رفضه، والإبقاء على غزة منفصلة عن الضفة الغربية، من إذن سيحكم غزة؟ هل اسرائيل التى انسحبت منها أحاديًا، وترى أنها شوكة فى ظهرها؟ أم قوات دولية، ولكن تحت أى مسمى، ولأى هدف؟ أم ترضى إسرائيل فى النهاية بما رضيت به فى كل جولات القتال السابقة أن تظل حماس بعد أن تتصور أنها أضعفتها، رغم إدراكها أن سياساتها الاستيطانية والعدوانية نالت من السلطة الفلسطينية، وأسهمت فى تقوية شوكة حماس، ليس فقط فى غزة، ولكن أيضا فى الضفة الغربية، خاصة بعد صفقة الرهائن، التى أدت إلى الإفراج عن السجناء. وحسب شالومى بن عامى تتحسب اسرائيل من حل الدولتين خشية أن ترى دولة «حماس» على حدودها، تستقطب أعداءها على خط التماس معها.
نقلا عن الأهرام