أحمد الخميسي
الحب والكتابة هما أشد العمليات النفسية مشقة وإنهاكا للروح، فيهما تنكسر الروح وتلتئم، تتحطم وتنهض ملايين المرات في كل مرة على أمل أن تسكن الروح قلب محبوب أو تسكن قلب كلمة. الكتابة عملية منهكة يعلم ذلك كل من اشتغل بها، ولذلك كتب جورج أوريل صاحب الرواية الشهيرة " العالم 1984" يقول إن:" الكتابة شيء مرعب، صراع مرهق، مثل نوبة طويلة من نوبات مرض مؤلم".

ويقول فرانك أوكونور صاحب كتاب الصوت المنفرد : " لقد أعدت كتابة معظم قصصي أكثر من عشر مرات، وأعدت كتابة بعضها خمسين مرة "! في الكتابة يظل الأديب يطارد اللغة، والمعنى، والبناء الفني، ربما يصل إلى ما ينشده، وفي ذلك المجال فإنه حتى النقطة، أو الفاصلة تمثل شيئا مهما، وفي ذلك يقول أوسكار وايلد : " لقد قضيت طوال النهار لكي أضع فاصلة، وطوال الليل لكي أحذفها" ! ويتعذب الكاتب أثناء الإبداع ليس فقط بالبحث عن المعنى، بل وبالشك المؤلم في قيمة ما يكتبه، وجدواه، وأهميته، ويتعذب بخمود الإلهام ثم اشتعاله، وفي المقابل قد لا يحصد الكاتب مقابل كل ذلك إلا على المتاعب والمطاردة كما حدث حين هاجت فرنسا كلها في مواجهة فلوبير بعد أن نشر رائعته " مدام بوفاري" فوصفته الصحف بأنه " خطر على الأخلاق" وألقي القبض عليه بتهمة الترويج للأدب الخليع ! وربما تكون المؤثرات الخارجية الاجتماعية أقل إرهاقا بكثير من المشاق النفسية العصبية في عملية الكتابة التي تستدعي تركيزا وتوترا عصبيا للامساك بالصورة الأدبية والمعنى والاحساس المتوهج المتصل بالعمل.

ولا تضارع مشقة الكتابة النفسية إلا مشقة الحب، هذا الشعور المذهل الذي يظل الانسان يفتش عنه منذ مولده وحتى النهاية. في الحب، وربما فقط في الحب، يصبح الانسان أكبر من ذاته إذ يكبر وجوده في محبوبته، وهو لا ينمو فحسب لكنه في الوقت ذاته يحلو، ويكتسب طعما آخر، فكأن الحب هنا ميلاد جديد، لكائن من اثنين، وقلب من قلبين. وفي الحب مثلما في الكتابة تتمزق الروح أشد ما يكون التمزق، ما بين الاحباط ، وخيبة الأمل، والخيانة، وفروغ الصبر، وسوء الفهم، وعدم توافق الظروف أو الأعمار، وتعدد مستويات الحب التي لا تكتمل، فقد يكون الحب مرة حسيا في الأساس، ومرة عاطفيا، لكنه نادرا ما يجمع كل مستويات الشعور والعقل ، فإذا جمع كل شيء قامت في وجهه اعتبارات أخرى تهدمه، أو تؤجله، أو تبيده.

وحسب تصوري فإن هناك  علاقة وثيقة بين الابداع بكل أشكاله والحب، ذلك أن الشعر والرواية والموسيقا كلها طرق لتعويض الحب بخلقه في الفن ، لكي نرى في الخيال ما لا نراه في الواقع. الفن تعويض ، وحين يعثر الفنان على الحب فإنه يندفع إلى خلق الجمال، كل الجمال الذي انبعث بداخله من نظرة امرأة محبة ومن نبرة صوتها واختلاجة جفونها. في الحالتين ليس هناك ما هو أشد مشقة من الكتابة ، والحب، ولا أشد متعة وعذوبة من تلك المشقة وذلك الأمل.
نقلا عن الدستور