د. نيفين مسعد
هذا هو المقال الثالث والأخير فى المقالات'> سلسلة المقالات التى تتناول علاقة فرنسا بالمسألة اليهودية، وهو المقال الذى يحلّل كيف تتأثّر سياسة فرنسا تجاه الصراع العربى الإسرائيلى بالنفوذ اليهودى داخل المجتمع الفرنسى واستخدام فزَاعة معاداة السامية للرد على أى انتقاد للتعاطى الإسرائيلى مع هذا الصراع.
وفى الوقت نفسه كيف تتأقلم هذه السياسة مع فكرة أن بعض مواطنيها اليهود يعلون مصلحة إسرائيل على المصلحة الفرنسية فى حال التناقض الجزئى بين المصلحتين. وبشكلٍ عام يمكن القول إنه ما من رئيس فرنسى نجا من انتقادات اللوبى اليهودى له فى موضوع الصراع العربي-الإسرائيلى، وإن تفاوتت حدّة هذه الانتقادات بحسب توجهات كل رئيس بشأن تحقيق المصلحة الوطنية الفرنسية، كما تفاوتت قدرات الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين على مواجهة الضغوط بحسب صلابة قاعدتهم الشعبية فضلًا عن مكوناتهم الشخصية.
وكما رأينا فى المقال السابق فإن أشّد الانتقادات التى جاءت من داخل الجماعة اليهودية قد تم توجيهها للرئيس الفرنسى شارل ديجول بعد قراره بفرض الحظر الجزئى على تصدير السلاح إلى الشرق الأوسط، لكن هذا لم يحمله على تغيير موقفه.وعلى النقيض من ديجول فإن نيكولا ساركوزى صاحب الجذور العائلية اليهودية كان هو الرئيس الفرنسى الأقرب لإسرائيل والذى دخل قصر الإليزيه وهو مدعوم من الناخبين اليهود، لذلك فإنه قام باستدارة فى السياسة الخارجية لفرنسا تجاه الصراع العربى الإسرائيلى، فوصف إسرائيل فى أول زيارة لها بأنها معجزة القرن العشرين واعتبر أمنها خطًا أحمر بالنسبة لفرنسا، وأن هذا الأمن غير قابل للتفاوض، وانتقد مطالبة الفلسطينيين بحق العودة وفى الوقت نفسه مطالبتهم بدولة مستقلة. ورغم ذلك فإنه ما أن انتقد الهجوم البرّى الإسرائيلى على غزّة فى يناير ٢٠٠٩، ثم وافق على عضوية فلسطين فى اليونسكو عام ٢٠١١ حتى انقلبت عليه الجماعة اليهودية وعاقبته بعدم التصويت له للفوز بفترة رئاسية ثانية.
واستكمالًا للنقطة الخاصة بعلاقة يهود فرنسا بإسرائيل، تجدر الإشارة إلى دور المسئولين الإسرائيليين فى تثبيت أولوية الولاء لإسرائيل لدى الجماعة اليهودية الفرنسية، ومن أكثر الأمثلة فجاجة فى هذا الخصوص دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلى آرييل شارون يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل فى ظل حكم الرئيس الفرنسى چاك شيراك، وذلك بسبب ما اعتبره شارون تزايدًا فى الأعمال المعادية للسامية ضد يهود فرنسا، وكأنه بذلك يريد أن يطعن فى قدرة الدولة الفرنسية على حماية مواطنيها اليهود ويقول إن إسرائيل أولى بهم من فرنسا.
وعندما وقع طوفان الأقصى كانت السياسة الخارجية الفرنسية تمّر حقيقةً بواحدة من أسوأ أزماتها على الإطلاق، سواء بسبب تبعيتها للولايات المتحدة بعد الحرب الأوكرانية، بينما، كان يرفع إيمانويل ماكرون راية الاستقلال الأوروبى، أو بسبب استمرار تراجع نفوذها الإفريقى فى بعضٍ من أهم معاقله التقليدية، أو حتى بسبب العجز عن حلحلة أزمة الرئاسة فى لبنان بعد الاستعراض الذى قام به ماكرون عند تفجير مرفأ بيروت، وظهوره بمظهر صاحب الكلمة المسموعة فى المشهد اللبناني. وهذه الخلفية تفسّر جزئيًا التماهى الفرنسى التام مع الموقفين الإسرائيلى والأمريكى لأكثر من شهر بتكرار مقولة حق إسرائيل المطلق فى الدفاع عن نفسها، وتأكّد هذا المعنى فى زيارة إسرائيل التى قامت بها يائيل براون رئيسة مجلس النواب والتى تنتمى للجماعة اليهودية.
لكن بالإضافة لهذا العامل الخارجى فى تفسير الموقف الفرنسى كان هناك عامل داخلى يتعلّق بوجود فرنسيين وفرنسيين إسرائيليين ضمن ضحايا طوفان الأقصى وكذلك ضمن الرهائن بيد فصائل المقاومة. ومع أن ماكرون كان الوحيد بين قادة أمريكا وألمانيا وبريطانيا الذى التقى الرئيس محمود عباس فى رام الله خلال زيارته إسرائيل، إلا أن هذا لم يُغيّر شيئًا من الصورة الكلية لا بالنسبة لموقف الرئاسة الفرنسية ولا بالنسبة لموقف معظم أركان الدولة الفرنسية، فلقد كان ماكرون أيضًا هو الوحيد بين القادة الغربيين الذى دعا لتوسيع التحالف الدولى ضد داعش ليشمل حماس. كما أن العديد من مسئولى الدولة الحاليين والسابقين وأعضاء فى جمعية الصداقة الفرنسية ـــ الإسرائيلية شاركوا فى مسيرة دعم إسرائيل التى دعا إليها المجلس التمثيلى للمؤسسات اليهودية فى يوم ٩ أكتوبر، بينما كان ممنوعًا فى المقابل ولعدة أسابيع تنظيم أى مسيرات مؤيدّة لفلسطين، فى تجسيد واضح لازدواجية المعايير.
جدير بالذكر أن المسيرة الرسمية/الشعبية المشار إليها اتجهت صوب برج إيفل الذى كان مضاءً بألوان العَلَم الإسرائيلي. فيما بعد أراد ماكرون إضفاء بعض التوازن على الموقف الفرنسى الرسمى تجاه الحرب على غزّة خصوصًا مع الارتفاع المذهل فى أعداد الضحايا المدنيين الفلسطينيين، فذكر فى مقابلة مع فضائية بى بى سى أنه لا يجوز قتل المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، وألمح إلى وقف إطلاق النار. وهنا واجه ماكرون هجومًا ضاريًا على مستويين، المستوى الداخلى بقيام المجلس التمثيلى للمؤسسات اليهودية فى فرنسا بإصدار بيان يعتبر فيه أن مسئولية قتل المدنيين فى غزّة تقع على عاتق حركة حماس تمامًا كما تقع مسئولية قتل المدنيين فى الرقّة والموصل على عاتق تنظيم داعش، وطالب ماكرون بتفسير كلامه بشكل واضح. والمستوى الخارجى بقيام رئيس الوزراء الإسرائيلى بانتقاد ماكرون انتقادًا لاذعًا واتهامه بأنه ارتكب خطأ فادحًا، منوّهًا إلى أن الإرهابيين الذين هاجموا إسرائيل يمكن أن يهاجموا فرنسا، وهذه المقارنة أراد بها نيتانياهو أن يعيد إلى ذاكرة ماكرون الاعتداءات الإرهابية التى تعرّضت لها فرنسا فى عامّى ٢٠١٥ و٢٠١٦ وأوقعت أعدادًا كبيرة من الضحايا. وعلى الفور بادر ماكرون بتصحيح موقفه وتأكيد أن حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها ليس محّل جدال.
والخلاصة هى أنه إذا كان من الصحيح أن السياسة الخارجية هى مجال محجوز للرئيس فى فرنسا بحكم دستور الجمهورية الخامسة، إلا أن قدرته على حرية الحركة فى إدارتها مسألة موضع نظر، وتعّد تعقيدات المسألة اليهودية الفرنسية من أهم عوامل تقييد هذه الحركة.
نقلا عن الاهرام