كتب - محرر الاقباط متحدون 

وجه نيافة الأنبا نيقولا أنطونيو، مطران طنطا للروم الأرثوذكس، والمتحدث باسم الكنيسة في مصر، رسالة تتضمن سيرة القديس سابا المتقدس المتوشح بالله، مؤسس دير اللافرا الكبير (دير القديس سابا في فلسطين، والذي تحتفل الكنيسة بعيده يوم 5 ديسمبر.
 
ولد سابا في قرية صغيرة منسية من قرى قيصرية الكبادوك اسمها موتلاسكا في العام 439م، اسم والده كان يوحنا واسم والدته صوفيا، وكانا مسيحيّين وكانا من أغنياء تلك البلاد وأشرافها. فلما بلغ الخامسة من عمره انتقل أبواه إلى الاسكندرية (لأنه كان ضابطاً في الجيش وخرج إليها للإلتحاق بالفرقة المعروفة بالإيصافرية )، وتركاه في القرية في عهدة خاله. عنما بلغ من العمر ثماني سنوات، وبسبب خلاف على إرث والده ترك كل شيء ولجأ إلى دير فلافيانا. أمضى سابا في دير فلافيانا عشر سنوات تلقى خلالها تدريبًا صارمًا على الحياة الرهبانية رغم حداثة سنه.
 
في الثامنة عشرة من عمره خرج إلى الأرض المقدسة. ثم أتى دير القديس أفتميوس الكبير قرب نهر الأردن، وطلب أن يقبل في عداد النساك. ولكنه نظرًا لحداثة سنه أرسله إلى دير القديس ثيوكتيستوس (قرب أريحا)، حيث كان المبتدئون يستعدون للحياة النسكيّة المفردة التي يديرها القديس أفثيميوس نفسه، فعاش هنالك مواظبًا على الإماتات الرهبانيّة وسائرًا في طريق الكمالات الإنجيليّة. وبقى سابا في دير القديس ثيوكتيستوس إثنى عشر عامًا مواظبًا على الإماتات الرهبانيّة وسائرًا في طريق الكمالات الإنجيليّة.
 
في الثلاثين من عمره سمح له القديس أفثيميوس بالنسك، فانتقل إلى الصحراء وتنسك قرب القديس جِراسِمُس الأردني. ثم أقام منفردًا لمدة خمس سنوات في مغارة في كهف في عمق صحراء روبا، يمارس فيه أعمال النسك الشديدة. وكان يقضي خمسة أيّام من الأسبوع في الوحدة التامة مثابرًا على التأمل والصلاة، يشتغل بعمل السلال ويبيعها لينفق على نفسه ويتصدّق على الفقراء. كان يذهب يومي السبت والأحد إلى الكنيسة ليسمع الإرشادات الروحية وحضور الذبيحة الإلهية وتناول الأسرار المقدسة، من ثم يعود إلى خلوته. وكان القديس أفثيميوس يسميه "الولد الشيخ".
 
في الخامسة والثلاثين، إثر وفاة القديس أفثيميوس، أبيه، انتقل سابا إلى البرية بين كوتيلا وروبا. وإذ رأى الشيطان بأية همة وشجاعة كان جهاد سابا حسده وأخذ يوجه إليه سهام تجارية عله يدخل الرعب إلى قلبه فيهج من مقامه الجديد. وذات مرة ظهر له الشيطان بهيئة أسد هائل يتجه نحوه زائرًا مهددًا، فطن إلى أن هذه خدعة شيطانية فرسم إشارة الصليب على نفسه اختفى الشيطان عنه كأنه لم يكن. ومن تلك الساعة جعل الرب الإله كل وحش سام ومفترس خاضعًا لصفيّه سابا فأضحى يعيش معها في القفر بسلام.
 
أمضى القديس سابا في القفر على هذا النحو أربع سنوات خرج في نهايتها جائلًا يطلب صحارى أعمق، فأتى إلى تله سبق لأبيه أفثيميوس أن وطئها. وفيما كان أخذًا في صلاة الليل مرة تراءى له ملاك الرب في حلة بهية وأراه ممراً ضيقًا ينحدر إلى سلوام جنوبي التلة، وأرشده إلى كهف مرتفع لم يسبق لإنسان أن دخله، وقال له: "إذا كنت ترغب حقًا في إعمار هذا القفر فامكث في هذا الموضع". فاتخذه لنفسه مستقرًا. كان ذلك في السنة الأربعين من عمره.
ولما استقر سابا في المكان جعل له حبلًا يصعد وينزل عليه. وقد كان يأتي بالماء من خزان يقع على بعد بضعة كيلومترات من الكهف. بعد ذلك بوقت قصير أتاه أربعة أعراب. وإذ لم يتمكنوا من بلوغ المغارة أنزل لهم الحبل ودعاهم إليه فلما أتوه وعاينوا خلو الكهف من كل متاع اعترتهم الدهشة وطوّبوا رجل الله على فقره وفضيلته. ولما انصرفوا عنه أخذوا على عواتقهم أن يعودوه مرة كل بضعة أيام حاملين إليه الخبز والجبن والبلح وغير ذلك مما تيّسر لهم. وأقام في هذا المكان متوحدًا خمس سنوات يناجي ربه ويُطهر عين فكره. 
 
كان القديس يقضي خمسة أيام من الأسبوع في الوحدة التامة مثابرًا على التأمل والصلاة، ويشتغل بعمل السلال ويبيعها لينفق على نفسه ويتصدّق على الفقراء. كان يذهب يومي السبت والأحد إلى الكنيسة لحضور الذبيحة الإلهية وتناول الأسرار المقدسة، من ثم يعود إلى خلوته.
 
ذاعت شهرة القديس وأقبل النساك والرهبان من جنسيّات مختلفة من بينهم أسقفُ قُلُنِيُّةَ يوحنّا الهدوئي إلى سابا.  في وقت قصير اجتمع حول القديس سابا سبعون تلميذاً، عيّن لكل منهم مغارة في الجوار يقيم فيها. هناك في هذا الموضع، إلى الجهة الشمالية من وادي قدرون، تكون، شيئًا فشيئًا، ما عُرف في التاريخ وإلى يومنا هذا باللافرا الكبير (دير القديس سابا الحالي). وقد نما عدد طلاب النسك فيه حتى بلغ، في زمان القديس سابا، مئة وخمسين. وقد نشأت بسعي القديس سابا سبعة أديرة بقيت عامرة كلها إلى القرن العاشر للميلاد.
 
حصل تمردًا في اللافرا الكبير على القديس سابا بسبب المساعدات تتدفق على القديس بعدما ذاع صيته وحرك الرب الإله قلوب العباد إليه. شاء سلّوستيوس بطريرك أورشليم أن يجعل سابا كاهنًا ليثبته في موقعه. لكن أبانا سابا لم يشأ أن يكون كاهنًا لأنه لم يحسب نفسه مستأهلاً. مع هذا، رغم ممانعته، رسمه البطريرك كاهنًا في عام 491م وهو  في الثالثة والخمسين من عمره.
 
إلى ذلك وللغاية عينها أقامه البطريرك أرشمندريتًا (لقب يُعطى للذين يرأسون ديرًا) قيمًا على كافة النساك في فلسطين، فيما أقام القديس ثيودوسيوس قيمًا على أديرة الشركة.
 
عاد القديس سابا إلى اللافرا بعد حين ليكتشف أن الأربعين الذين قاوموه أضحوا ستين، فعجب كيف يجتذب الشر المتهاونين دونما مشقة. وقد أبدى، أول أمره، صبرًا إزاء غضبهم عليه ومحبة إزاء كرههم له. ولما اشتدت وقاحتهم واستبد بهم الغيظ تركهم من جديد وارتحل إلى ناحية نيكوبوليس حيث أقام تحت شجرة خروب. كل ذلك كان بتدبير من الله لأن المكان الجديد الذي لجأ سابا إليه ما لبث أن تحول إلى دير للشركة.
 
وإذ طال غياب قديسنا عن اللافرا قام المتمردون يشيعون عنه أنه أثناء جولاته في البرية افترسته الوحوش الضارية. فقام المتآمرون بنفس واحدة وجاؤوا إلى إيليا، رئيس أساقفة أورشليم، مطالبين بتعيين رئيس آخر عليهم بحجة أن شيخهم مفقود وأن الأسود أكلته، فلم يصدقهم بل قال لهم: "ابحثوا عنه حتى تجدوه وإلا الزموا الصمت حتى يكشف الرب الإله لكم ما لا تعلمون".
 
ولمّا كان عيد تجديد هيكل القيامة جاء القديس سابا كعادته إلى أورشليم ليحضر العيد فرآه البطريرك وتمسك به وأعاده إلى ديره (دير اللافرا) بالرغم من إعتذار القديس عن ذلك. ووّجه رئيس الأساقفة إلى الرهبان رسالة حثهم فيها على الخضوع لرئيسهم وأمر الذين لا يمتثلون أن يخرجوا. فلما بلغ المتمردين خبر ذلك خرجوا يطلبون ديرًا جديدًا.
 
ولم يمض وقت طويل حتى عرف سابا بمكان إقامة المتمردين، فلما جاء إليهم وجدهم محتاجين منقسمين فرقّ لحالهم. فحضر إليهم مرة أخرى وكان معه فريق من العمال والحرفيين. وقد أمضى بينهم خمسة أشهر إلى أن أتم بناء كنيسة وفرن وجهزهما بما يلزم. كان قد بلغ آنذاك من العمر تسعة وستين عامًا.
 
في القرن الخامس بَلبلت الكنيسة بدعة الطبيعة الواحدة (المونوفيسيتية)، التي لا تعترف بأن ليسوع المسيح طبيعة واحدة لا طبيعتين (إلهية وبشرية) كما تقول الكنيسة الأرثوذكسية، بل تقول بأن طبيعة الرب الإنسانية إمتصتها طبيعته الإلهية كليًّا. بذلك البدعة تُوهِن تأنس الرب، وبالتالي خلاصنا. 
 
أُرسل القديس سابا مرتين إلى القسطنطينية. الأولى مع القديس ثيودوسيوس ، في عام 511م خلال الصراع بين الفريقين الإرثوذكسي والفريق المونوفيسيتي، بتكليف من إيليا، رئيس أساقفة أورشليم ليُثبت الإيمان الأرثوذكسي. لأن اصحاب القول بالطبيعة الواحدة استمالوا الإمبراطور أناستاسيوس (491-518م) إليهم، فعمد إلى طرد البطريرك إيليا الأورشليمي من كرسيه واستبدله بآخر يدعى يوحنا. ورفع سابا وثيودوسيوس، باسم الرهبان الأرثوذكس، عريضة جريئة إلى الامبراطور في هذا الشأن. والثانية، في عام 530م بناء لطلب رئيس الأساقفة بطرس فمثل لدى الامبراطور يوستنيانوس (527-565م)، ليسأله الدعم والحماية وإعفاء إقليمي فلسطين الأولي والثانية من الضرائب. وقد تكللت مهمة القديس سابا، في كلتا الحالتين بالنجاح.
 
ذُكر في السنكسار السابائي، خلال الصراع بين الفريقين الإرثوذكسي والفريق المونوفيسيتي أن القديس سابا عندما كان يحارب أصحاب بدعة الطبيعة الواحدة قاموا بقلع إحدى عينيه.
 
خلال تواجد القديس سابا في أورشليم، رأى القديس دُنُوَّ أجله فسجد للقبر الفائق القداسة وانكفَأ إلى الهدوء منسكه الحبيب. وهناك طلب من رهبانه أن ينقلوه إلى ديره ليرتاح في توبته. في ديره تناول القديس الأسرار الطاهرة ورقد في الرب يوم ٥ ديسمبر/كانون الأول عام ٥٣٣م عن عمر ٩٤ سنة، وأُودِعَ اللحد في منسكه.
 
امتاز القديس سابا في حياته بالوداعة والتواضع والفطنة، وكان شفوقًا على القريب، خادمًا للضعيف والغريب، كثير الإماتات والأصوام، لذلك منحه الله صنع العجائب. فقد جرى عدد كبير من الظهورات والعجائب بعد رقاده، وقد سجل الراهب كيرللس البيساني كاتب سيرته بعضًا منها.
 
فيما بعد، لأجل حماية رفاته الذي حُفظ كليًّا بلا انحلال، نقله رهبانه إلى القسطنطينية.
 
في القرن الثالث عشر نقله الصليبيون إلى البندقية. وبين الثالث عشر والسادس والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل عام ١٩٦٥م أعادت الكنيسة الغربية جثمانه. ونقل إلى اللافرا الكبرى (أي دير مار سابا) ووضع جثمانه في ناووس من زجاج مكشوف الأطراف، ووضع الناووس في داخل الكنيسة المركزية، وما زال هناك إلى يومنا هذا.
 
في هذه اللافرا التي أسسها القديس سابا أزهر العديد من الآباء القديسين على مدى الأيام، أمثال القديس يوحنا الدمشقي وقوزما، أسقف مايوما، واستيفانوس السابائي المعروف واندراوس الكريتي وسواهم. كما بقي الدير قلعة أرثوذكسية جيلاً بعد جيل، وإليه يعود أقدم تبيكون جمع القواعد التي تضبط الخدم الليتورجية في العبادة.
 
طروبارية للقديس سابا (باللحن الأول):
"ظَهرتَ رأسَ الأبرارِ وَمُساويَ الملائكة، وَمُتقدِّساً مُنذُ الطُفولةِ أيها البارُ سَابَا، وبما أنكَ عِشتَ عَيشاً سَماوِياً، قُدتَ إلى الحياةِ بالله، بالأقوالِ والأفعال الحقّة، الصَارِخينَ بإيمانٍ، المجدُ لِمنْ قوّاكَ، المَجدُ لِمنْ كَلَّلكَ، المجدُ لِلفاعِلِ بِكَ الأشفِيَةَ لِلجميعْ".