بقلم شكري بسطوروس
بعد صبر وطول اناة زائدين، انسحبت الكنيسة المصرية بطوائفها المختلفة من اللجنة التأسيسية للدستور. حسنا فعلت! وجاء في بيان انسحابها: "... فالدستور المزمع صدوره بصورته الحالية لم يحقق التوافق الوطنى المنشود ولا يعبر عن هوية مصر التعددية الراسخة عبر الأجيال، وخرج عن التراث الدستورى المصرى الذى ناضل من أجله المصريون جميعا مسلمين ومسيحيون وانتقاص من الحقوق والحريات والمواطنة التى اكتسبها المصريون عبر العصور، وقد شارك الأعضاء الممثلون لكنائسنا بروح المحبة والانفتاح والوطنية خلال مشاركتهم فى أعمال الجمعية فى تفاعل تام مع مختلف الأطياف، إلا أن المحصلة جاءت على غير ما توقعنا من توافق وطنى. وحفاظا على الهوية المصرية فالأمر دفعنا إلى الانسحاب من الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور... "
فالدستور الذي يتم االانتهاء حالياً من صياغته هو دستور يخدم ايدولوجية الاسلاميين ضيقة الافق ويؤسس لدولة دينية عنصرية. صرح الأنبا يوحنا قلتة، المعاون البطريركي للكنيسة الكاثوليكية في مصر وعضو الجمعية التأسيسية للدستور: "إن الكنيسة انسحبت من الجمعية التأسيسية لاتجاهها لصياغة دستور ديني."
فمن الامور المقلوبة الكثيرة في مصر ان الذين يرفضون الوقوف للنشيد الوطني يهيمنون على الجمعية التأسيسية وينتزعون حق وضع دستور مصر على هواهم ودون غيرهم!
عقب انسحاب الكنيسة انسحب حزب الوفد وكذلك انسحب السيد عمرو موسى المرشح السابق للرئاسة الذي قال خلال مؤتمر الانسحاب "الدستور فى خطر... قدمنا مقترحات ولم يؤخذ بها واللجنة المصغرة لتشكيل الدستور تم صياغتها بشكل تحكمى... منع اذاعة الجلسات الاخيرة استهدف الا يرى الناس الخلافات الضخمة و المواد المتعلقة بالسياسة والدين." الامر المثير للرثاء أن المهندس أبو العلا ماضي، وكيل الجمعية التأسيسية للدستور ورئيس حزب الوسط الاسلامي نفى انسحاب الكنيسة والقوى المدنية رغم إعلانهم الانسحاب رسميًا.
أما اكثر مواد الدستور فجاجة وخطورة في المسودة الاخيرة للدستور هي المادة 220 التي تنص على ان: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة."
هذه المادة ببساطة تحيل مبادئ الشريعة إلى الأحكام الفقهية وتدفع بمصر إلى خطر التقسيم لا محالة لأنها تقضي على مفهوم المواطنة وتميز تمييزا فاحشاً لا يمكن قبوله بحال من الاحوال بين المسلم وغير المسلم. سأنقل لكم هنا ما بعض الامثلة التي كتبها د. علاء الاسواني في المصري اليوم بتاريخ 19 نوفمبر 2012، إذ يقول: "بحثت عن أحد المصادر المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة فلم أجد خيرا من كتاب «فقه السنة» للمرحوم الشيخ سيد سابق «1915 - 2000». «صادر عن دار الفتح للإعلام العربى فى ثلاثة أجزاء»، هذا الكتاب باعتراف الجميع من أهم كتب الفقه وأرفعها مكانة، أضف إلى ذلك أن الشيخ سيد سابق كان من القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، حتى إن كتاب فقه السنة قد صدر بمقدمة كتبها المرحوم الشيخ حسن البنا... عرض الشيخ سيد سابق فى كتابه لمذهب الجمهور من أهل السنة والجماعة فى شتى نواحى الحياة. أعتذر هنا لأننى سوف أستعمل كلمة كافر للإشارة إلى المواطن القبطى، فهكذا فعل معظم الفقهاء، وهكذا فعل الشيخ سيد سابق نفسه."
ثم يذكر د. الاسواني عدة امثلة بحسب ما وردت في كتاب الشيخ سيد سابق منها:
"أولا: إذا افترضنا أن لصاً مسلماً سرق صيدلية مملوكة لصيدلى قبطى.. فى هذه الحالة إذا كان الشهود على واقعة السرقة أقباطا فإنه لا تجوز شهادتهم لأن رأى جمهور الفقهاء يؤكد أنه لا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم... يقول الشيخ سابق «الجزء الثالث صفحة 380»:
«يشترط فى قبول الشهادة أن يكون الشاهد مسلما، فلا تجوز شهادة الكافر على المسلم إلا فى الوصية أثناء السفر (عند الإمام أبى حنيفة)».. أى أنه إذا كان المسلم مسافرا وحضره الموت ولم يجد إلا قبطيا ليبلغه بوصيته، هذه الحالة الوحيدة التى تقبل فيها شهادة القبطى على المسلم. فيما عدا ذلك لا تقبل شهادة القبطى على المسلم إطلاقا.. نستطيع أن نتخيل الفوضى التى سوف يحدثها هذا الحكم الفقهى إذا طبق فى مصر.. سيكون بإمكان أى مسلم أن يعتدى على أملاك الأقباط وكنائسهم وهو مطمئن إلى أن كل الذين سيشهدون على ارتكابه الجريمة من الأقباط الكفار، وطبقارأى جمهور الفقهاء، لا يجوز قبول شهاداتهم على المسلم حتى لو ارتكب جريمة!
يذكر الاسواني مثالاً اخر هو القذف فيقول:
"القذف هو الاتهام بالزنى والخوض فى الأعراض بالسوء.. هذه جريمة فى الفقه الإسلامى وعقوبتها الجلد ثمانين جلدة، لكن الغريب أن جمهور الفقهاء اعتبروا إسلام المجنى عليه شرطا أساسيا لإقامة الحد على من قذف فى حقه.. يقول الشيخ سابق فى كتابه «الجزء الثانى صفحة 535» «الإسلام شرط فى المقذوف (المجنى عليه) فلو كان المقذوف من غير المسلمين لم يقر الحد على قاذفه عند جمهور العلماء، وإذا كان العكس فقذف النصرانى أو اليهودى المسلم فعليه ما على المسلم: ثمانون جلدة»"
اين الدولة المدنية التي يتحدث عنها الاسلاميون؟! هل هذه هي حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون حسب ما يفهمها الاسلاميون؟ بئس هذا الفهم الذي يرى أنه إذا سب القبطى المسلم يتم جلده ثمانين جلدة، وإذا سب المسلم القبطى لا يجوز جلده. فهل الكرامة الإنسانية حكر على المسلمين فقط، أما الأقباط فهم مخلوقات بلا عرض ولا كرامة؟ ما هذا السفه؟ هل يمكن قبول مثل هذه الاحكام في عالم اليوم؟ إذن فليحذف الاسلاميون المادة 29 من مسودة الدستور والتي نصها: "الكرامة الانسانية حق لكل إنسان، يكفل المجتمع احترامها وحمايتها، ولا يجوز بحال إهانة اي انسان او ازدراؤه" لأنها لا تزيد - في عرفهم - عن كونها كلام فارغ.
مثال ثالث يذكره د. الاسواني هو الدية:
"الدية غرامة مالية على من ارتكب القتل الخطأ أو شبه العمد.. لكن هذه الدية، طبقا لرأى جمهور الفقهاء، تختلف باختلاف الجنس والدين.. دية المرأة المسلمة المقتولة نصف دية الرجل المسلم المقتول ودية القبطى المقتول نصف دية الرجل المسلم المقتول، أما دية المرأة القبطية المقتولة فتبلغ نصف دية المرأة المسلمة المقتولة «أى ربع دية الرجل المسلم المقتول».. هذا حكم جمهور الفقهاء كما يؤكد الشيخ سابق فى كتابه «الجزء الثالث صفحة 60 و61».. ونحن إذا طبقنا هذا الحكم الفقهى نكون قد اعترفنا بأن الحياة الإنسانية ليس لها القيمة ذاتها عند الناس جميعا، فحياة الرجل المسلم أغلى من حياة المرأة المسلمة، وحياة القبطى أرخص من حياة المسلم، وحياة المرأة القبطية أرخص من الجميع (لأن بها العيبين فهى امرأة وقبطية)." فهل يمكن قبول هذا المفهوم الذى يخالف كل مواثيق حقوق الإنسان التى وقعت عليها مصر؟!
االمثال الرابع الذي يذكره الاسواني يتعلق بالقتل، فيقول: "فى جريمة القتل يجب تطبيق القصاص على القاتل وبالتالى ينفذ فيه حكم الإعدام.. إلا أن من شروط القصاص أن يكون المقتول مسلما، أما إذا كان المقتول كافرا قبطيا، فإن القاتل لا يطبق عليه القصاص.. يقول الشيخ سابق فى الجزء الثالث صفحة 25 «من شروط القصاص أن يكون المقتول مكافئا للقاتل حال جنايته، بأن يساويه فى الدين والحرية، فلا قصاص على مسلم قتل كافرا أو حر قتل عبدا، لأنه لا تكافؤ بين القاتل والمقتول.. بخلاف ما إذا قتل الكافر مسلما أو قتل العبد حرا فإنه يقتص منهما»..
ويعلق الاسواني: "بعض الفقهاء خالفوا هذا الرأى، لكن الرأى الغالب عند جمهور الفقهاء من أهل السنة والجماعة أن المسلم لا يقتل بغير المسلم، ولو أننا طبقنا هذا الحكم الفقهى فإن المصرى المسلم إذا قتل قبطيا بالرصاص أو ضربه حتى مات، لا يجوز فى هذه الحالة إعدام القاتل المسلم، لأن القاعدة أنه لا يقتل المسلم إذا قتل غير المسلم.. ماذا تكون حالة المجتمع إذا تم تطبيق هذا الحكم الفقهى، وكيف ندعى بعد ذلك أننا نعيش فى دولة يتساوى فيها المواطنون إذا كان المسلم لا يجوز إعدامه إذا قتل قبطيا، بينما يعدم القبطى إذا قتل مسلما؟!"
هذه بعض نماذج الأحكام الفقهية التي يريد الإخوان والسلفيون تطبيقها. فهل يمكن قبول مثل هذه الاحكام في القرن الحادي والعشرين؟ هل هذه الاحكام الفقهية تتفق مع نص المادة 31 من نفس الدستور والتي تنص على ان: "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك؛ بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الرأى أو الوضع الاجتماعى أو الإعاقة."؟! ما هذا الخبل بين المادتين 31 و 220؟
لن يكون هذا دستوراً لكل المصريين، وإنما سيكون دستوراً لبعض المتشددين الإسلاميين مما يجعل مصر عرضة ليس فقط لعقوبات دولية بل ايضاً لقلاقل داخلية وحرب اهلية. السودان ليس ببعيد!