مدحت بشاي
«لعلكم تتساءلون عن هذا الرجل القادم من العالم الثالث وكيف وَجدَ من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟، وهو تساؤل فى محله.. فأنا قادم من عالم ينوءُ تحت أثقال الديون حتى ليهدّده سدادُها بالمجاعة أو ما يُقاربها.. يهلك منه أقوام فى آسيا من الفيضانات.. ويهلك آخرون فى إفريقيا من المجاعة، وهناك فى جنوب إفريقيا ملايين المواطنين قُضى عليهم بالنّبذ والحرمان من أى حقوق الإنسان، فى عصر حقوق الإنسان، وكأنهم غير معدودين من البشر..!، وفى الضفة الغربية وغزة أقوام ضائعون، رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم.. هَبُّوا يطالبون بأول مطلب حقّقه الإنسانُ البدائى، وهو أن يكون لهم موطن مناسب يُعترف لهم به، فكان جزاءُ هبّتهم الباسلة النبيلة رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالًا تكسيرًا للعظام وقتلًا بالرصاص وهدمًا للمنازل وتعذيبًا فى السجون والمعتقلات ومن حولهم مائة وخمسون مليونًا من العرب يتابعون ما يحدث بغضب وأسى ممّا يهدد المنطقةَ بكارثة، إنْ لم تتداركها حكمةُ الراغبين فى السلام الشامل العادل..».
لقد رأيت استهلال مقالى بالتذكير بتلك الفقرة الرائعة من رسالة الروائى والأديب الكبير نجيب محفوظ، ونحن نحتفى بذكرى ميلاده الـ112، والتى أرسلها إلى الأكاديمية السويدية المانحة لجائزة نوبل، والتى أشار فيها بقوة وصياغة سياسية رائعة لحقوق المواطن الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، منذ 35 عامًا (أكتوبر 1988 تاريخ منح الجائزة)، وهى رسالة رأى أهمية تبليغها إلى الضمير العالمى، الذى مازلنا نستصرخ يقظته لإيقاف عمليات حرب الإبادة واستهداف أطفال الجنة على الأراضى الفلسطينية.
ولكن هناك بغاة آخرون من أهل الظلمة والتخلف غير شياطين قتلة أطفال الجنة فى فلسطين، كانوا يعيشون بيننا، وقد قرروا تكليف مندوبهم ليسدد ضربة سكين غادرة إلى رقبة أديب نوبل، ولكنهم لم يفلحوا فى النَّيْل من روحه أو ضرب رسالته الإبداعية، فكان تحريره مجموعة من أحلامه التى تم إصدارها تحت عنوان «أحلام فترة النقاهة»، التى قرر توثيقها ليهديها لقراء إبداعاته، وليضيفها إلى صفحات كتاب حياته ليقود بحروفها كتائب التنوير والحداثة.. إنها أحلام فترة الاستشفاء التى اهتزت وربَت، وأنبتت ثمارها، خلال الفترة التى انقطع فيها نجيب محفوظ عن الكتابة، أى فترة النقاهة التى عاشها بعد محاولة اغتياله الآثمة، وتعطلت حركة يده اليمنى عن الكتابة لست سنوات، ربما هذه الواقعة المؤلمة التى جاءت فى نهاية رحلة أدبية مليئة بالنجاحات المبهرة، يمكن أن تكون قد أدخلت محفوظ فى سحابة اكتئابية، فخاض رحلته الداخلية عبر بنية حلمية، تسمح بفضاء سردى، جديرة برجل عاش حياته فى السرد والحكى الإبداعى.
ومعلوم أن د. الرخاوى كان يتابعه ليؤهله نفسيًّا، ويدرب يده لتعود إلى الحياة، وكان أول ما خطّت يداه على نحو شبه مكتمل، ذا طبيعة حلمية، قد يبدو الأمر أقرب إلى المعجزة، ولا مشاحة أن نتوقع المعجزات عندما يتعلق الأمر بنجيب محفوظ، حيث التجربة النفسية التى عاشها محفوظ بعد واقعة العدوان عليه، وتوقفه عن الكتابة، بوصفها طريقة للتحديق فى الواقع المعيش، منحته الفرصة ليحدق فى واقعه الداخلى.
يكتب فى واحد من أحلامه: «دُعيت الأحزاب إلى السباق، فأقام كل حزب سرادقه، وركَّب مكبرات الصوت، وراحوا يتسابقون فى إلقاء الخطب وتحذير الناس من عملاء أمريكا وإسرائيل، واشتدت حرارة الجدل، ثم تبادلت السرادقات إطلاق النار، ثم لم يَعُد يُسمع إلا صوت الرصاص».
وفى حلم آخر بديع يحكى «محفوظ»: «الليل سجى فاحتوينا غرفة، وهبتنا الظلمة راحةً عابرةً وفرحًا حميمًا، وترامى إلينا من الطريق ضجة، فهُرعت إلى خصاص النافذة، فرأيت قومًا يحدِّقون بشخص مألوف الهيئة، وينهالون عليه باللعنات واللكمات، وهمست: لِمَ لمْ يقاوم؟، حتى شعرت باللكمات تخرق جسدى».
وعن ارتباط جائزة نوبل بالانحيازات السياسية، يقول محفوظ: أنا لا أعرف بواطن الأمور، ولكننى آخذ بالظاهر الذى يقول إن المستوى الفنى والتوجه للسلام هما شرطان لنَيْل جائزة نوبل، وإذا كان هناك غير ذلك فأنا لا أعرفه، ثم أريد أن أسأل، هل أنا وَصِىٌّ عليهم؟، أنا حقيقة لا أعرف، وإذا كان البعض يعرف أشياء عن هذا الموضوع فليُعرفنى بها، إنهم أعطوها لأحد الأفارقة، وآخر فى أمريكا اللاتينية (يقصد جارثيا ماركيز) وقبلها لطاغور الهندى، وما أود أن أؤكده أن الغرب ليس كله عنصريًّا، والمسألة أنها كانت نزوة شيطانية من ألمانيا الهتلرية وانتهت، ولك أن تناقشنى أليست مبادئ هيئة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان كلها من الغرب.
ويحكى محفوظ عن أطرف المواقف التى حدثت له عقب الفوز بجائزة نوبل («الأيام» 1995)، حيث حكت له شقراء ألمانية أنها أثناء جولتها فى أوروبا عقب فوزه بجائزة نوبل لاحظت رواج مبيعات رواياته فى السوق الأوروبية، وأن الشباب المصريين من الدارسين فى الجامعات الأوروبية قد نسجوا قصص حب ملتهبة مع أوروبيات عن طريق إهداء رواياته لزميلاتهم، واعتُبرت مدخلًا لصداقة معهن، ويقول صاحب «الكرنك»: يعنى أن فوزى بجائزة نوبل كان فرصة ميسرة للغزل والمعاكسات فى أوروبا.
نقلا عن المصرى اليوم