«السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا».. كلمات نطق بها الطفل الرضيع وهو بين ذراعى أمه فى أول خطاب منه لقومه يوم مولده، فكانت دعوة المسيح من أجل السلام، فشاعت الأنوار فى محيطه وأصبح يوم مولده عيدا تملؤه البهجة والسعادة والأضواء وصوت الأجراس، فتعج بيت لحم - فى هذا الوقت من كل عام - بكنائسها العتيقة حيث مهد المسيح بالوفود من كل أنحاء العالم احتفالا بميلاده والذى تحتفل به كنيسة المهد فى 25 ديسمبر.

ولأن الميلاد كل عام فى بيت لحم مختلف عن كل بقاع العالم، فهو هذا العام أيضا سيكون مختلفا عن كل ما سبقه من احتفالات، فاليوم لن تكون هناك «أجراس» ولا «أضواء» و«لا زينة»، «لا أحد يشعر.. لا أحد فى مزاج للاحتفال»، بتلك الكلمات التى ينبع منها حزن دفين كامن فى القلوب - عما يجرى فى قطاع غزة على بعد 90 كيلومترا من بيت لحم- بدأ القس منذر إسحق،  قس كنيسة عيد الميلاد الإنجيلية اللوثرية التى يبلغ عمرها 125 عاما فى بيت لحم، حواره مع «برلمانى»، والذى روى فيه كيف سيقضى المسيحيون ليلة عيد الميلاد.
 
بألم تحدث القس إسحق عن قرار كنائس بيت لحم بعدم الاحتفال هذا العام بعيد الميلاد المجيد، اعتراضا وتضامنا مع أبناء الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة والذى يٌباد كل يوم أمام العالم، حيث راح ضحية تلك المجازر الغاشمة من جيش الاحتلال أكثر من 20 ألف شهيد و52 ألف جريح.
 
وقال القس إسحق: لن تشهد مدينة بيت لحم هذا العام نصب شجرة الميلاد فى ساحة كنيسة المهد، إذ ستكون الاحتفالات مختصرة «بدون ضجة ودون الأضواء» فى ظل الحرب الدائرة فى غزة، مضيفا: «لأول مرة فى ذاكرة العديد من السكان، لم يتم نصب شجرة عيد الميلاد فى ساحة كنيسة المهد، حيث استعدت الكنيسة لإقامة خدمات دينية بدون مظاهر احتفالية، سنحتفل برصانة وبطريقة روحانية أكثر».
 
وأكد فى حواره أن زعماء جميع الكنائس المسيحية فى القدس والضفة الغربية ألغت الكثير من المظاهر الاحتفالية، فعلى سبيل المثال إلغاء كل الاحتفالات التى تصاحب قداس عيد الميلاد، فبيت لحم فى موسم الميلاد يتم فيها عمل سوق كبير للعيد ويتم تزيين كل الشوارع، بالإضافة إلى العديد من الاحتفالات والمهرجانات الثقافية والدينية المتنوعة التى تقام فى كل أنحاء البلد برعاية الكنائس، كل هذا سيختفى هذا العام.
 
ليس هذا فحسب بل إنه أشار إلى تغيير طقوس استقبال بطريرك كنيسة أوجاع العذراء أو بطريركية الأرمن الكاثوليك داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، والذى يقوم بزيارة فى نهار عيد الميلاد 24 ديسمبر من كل عام إلى بيت لحم، ويتم استقباله بمشهد مهيب تصاحبه مجموعات كشفية واستعراضات موسيقية فى الشوارع، كل هذا تم إلغاؤه والبطريرك سيزور بيت لحم فقط لإقامة صلاة العيد من كنيسة المهد، بدون احتفالات صاخبة.
 
وفى الأيام الأولى من ديسمبر من كل عام، يجتمع قادة الكنيسة فى بيت لحم لافتتاح موسم ما قبل عطلات عيد الميلاد فى حدث عادة ما يكون مقصدا لكثير من الزوار، لكن هذا العام، كما يصف القس إسحق لنا الأوضاع داخل البلدة المقدسة، خلت شوارع وساحات المدينة الجبلية إلى حد كبير وصارت كئيبة تحت شمس الشتاء الجاف، وتعتبر كنيسة المهد من أقدم كنائس العالم، والأهم من هذا حقيقة أنَّ الطقوس الدينية تقام بانتظام حتّى الآن منذ مطلع القرن السادس الميلادى حين شيّد الإمبراطور الرومانى يوستنيان الكنيسة بشكلها الحالى، هكذا قال القس إسحق والذى أكد أن هذه أول مرة تلغى فيها الاحتفالات بهذه الطريقة.
 
 وأضاف: «بهذه الطريقة وببيان مسبق من كل كنائس بيت لحم، نعم هذه المرة الأولى التى يتم فيها إلغاء المظاهر الاحتفالية بعيد الميلاد بهذا الشكل، والقرار صدر من رؤساء كنائس القدس وبيت لحم، وهم الرؤساء الروحيون لكل كنائسنا، وهم أدركوا خطورة الوضع القائم وأن جميع الشعب فى حالة حزن ورثاء وحداد».
 
واسترسل القس إسحق فى حديثه قائلا: «حتى لو لم يصدر هذا البيان بشكل رسمى، فأنا أجزم بأنه لم يكن أحد يستطيع الاحتفال فى ظل هذه الظروف، فرؤساء الكنائس عبروا فقط عن واقع الكنيسة اليوم، إنها فى حزن وألم لما يحدث فى غزة».
وبالرجوع بالذاكرة بحثا عن حوادث مشابهة، عجز القس إسحق تذكر أى موقف مشابه، وقال: «حتى خلال وباء كورونا، لم نر بيت لحم فى هذا المظهر، أحيانا كانت تغيب بعض مظاهر الاحتفال بشكل قسرى لصعوبة القيام بها نظرا لظروف أمنية، فمثلا فى الانتفاضة الثانية بالقدس لم نتمكن من إجراء الاحتفالات المصاحبة للقداس، أما اليوم فالمدينة خالية وحزينة»، وروى لنا أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية فى بيت لحم اختارت أن تقوم بتغيير شكل مذود الميلاد المعتاد، وقال: «قمنا بوضع مزود من حجارة ركام والمسيح بين الركام فى هيئة طفل فلسطينى من قطاع غزة، فمزود الميلاد تم استبداله بمزود لبيت مهدوم وبين أنقاضه طفل وهذا أقل تمثيل رمزى لما تشهده غزة من دمار»، وأضاف: «لو ولد عيسى اليوم، لكان قد ولد فى غزة تحت الركام».
 
والمذود هو رمز روحى يمثل نموذج المغارة التى تجسد مكان وقصة ميلاد السيد المسيح، وتجسده طفلا ومريم العذراء، ويوسف النجار، وجرت العادة على أن يبنوا المذود كل عام فى مثل هذه الأيام، فى البيوت والكنائس ومراكز التسوق خلال موسم عيد الميلاد، وتتباهى كل أسرة بشكل وحجم المذود.
 
وقال «لقد فعلنا ذلك لأننا ما زلنا نرى صور الأطفال تحت الأنقاض يومًا بعد يوم، ونحن منزعجون منهم، ومكسورون بسببهم، ونشعر بالعجز،  نشعر بالحزن بسبب صمت العالم أيضا، نشعر أن حياتنا لا تهم، فهى لا تساوى نفس قيمة حياة الآخرين».
 
واعتبر القس إسحق فى حديثه أنهم بهذه الإجراءات بعثوا رسالة للعالم برفضهم ما يحدث فى غزة على وجه الخصوص وكامل الأراضى المحتلة، وأن انتهاكات إسرائيل يجب أن تتوقف، إلا أن العالم يصم آذانه عن المناشدات، ويغمض عينيه عن جرائم الاحتلال، وقال: «نتمنى أن تكون رسالتنا بإلغاء الاحتفالات قوية وتصل للعالم ولكن للأسف حتى الآن جميع مناشدات المسيحيين فى فلسطين لرؤساء الدول باءت بالفشل، وأصبحنا نشعر بأنهم لا يبالون بنا لا كفلسطينيين ولا كمسيحيين، مع تقديرنا طبعا لدعم العديد من كنائس العالم لقضيتنا خاصة كنائس الشرق».
 
وأضاف: «لكن حتى الآن كل رسائلنا ومناشداتنا لوقف الحرب لم تلق أذن صاغية لدى أصحاب القرار حول العالم، لافتا إلى أن الرسالة التى أرسلتها كنائس بيت لحم للبيت الأبيض للمطالبة بوقف إطلاق النار، أجابت عليها واشنطن بالتصويت بالفيتو فى مجلس الأمن، هم يحتفلون بعيد الميلاد فى أرضهم، ويشنون الحرب فى أرضنا».
 
وأضاف: «أود أن أقول إنه بالنسبة للكثيرين فى اليمين الدينى، فإن ولاءهم السياسى يتفوق فى الواقع على أى قلق أو تعاطف مع المسيحيين فى الشرق الأوسط بشكل عام، ويتحركون فقط عندما يتعرض المسيحيون للاضطهاد فى أماكن أخرى، ولكن عندما نأتى ونقول إننا مضطهدون من اليهود المتطرفين، نحن لا نحصل على نفس رد الفعل».
 
الوضع فى الضفة الغربية كافة صعب، حيث وصف قس الكنيسة اللوثرية فى القدس فرض تل أبيب ظروف قاسية على الجميع منذ 7 أكتوبر، بالإضافة إلى موجة هائلة من الاعتقالات للفلسطينيين الذين تم وضعهم فى الاحتجاز الإدارى دون محاكمة، وحصار واسع ونقاط تفتيش على كل بلدة وفى كل منطقة فلسطينية، وفى حين تشهد غزة حرب إبادة، هناك الكثير من الغارات العسكرية والكثير من عنف المستوطنين فى الضفة الغربية، إلى الحد الذى أصبح فيه من الخطر علينا أن نسير من مكان إلى آخر.
 
وفى حزن أشار إلى أن: «هذه الفترة بيت لحم تقع تحت الحصار الإسرائيلى بشكل تام، حتى الصحافة التى تحاول الدخول لبيت لحم لتغطية الصلوات تدخل بطرق التفافية، حتى المسيحيين لم يتمكنوا من الدخول بسهولة لإقامة الشعائر والصلوات خلال هذه الفترة، بل إن المطارنة الفلسطينيين المتواجدين فى القدس يصلون بصعوبة شديدة لبيت لحم، نحن نمر من يوم 7 أكتوبر حتى الآن بحصار كامل على كل المدن الفلسطينية، فالحصار ليس فقط على غزة بل إن مدن الضفة بما فيها القدس وبيت لحم تعانى الحصار وتضييق الدخول والخروج والحركة وفى هذه الفترة نظرا لأهميتها الدينية لنا نشعر بقسوة الحصار وتأثيره علينا».
 
ثم عاد ليؤكد أن: «بيت لحم حزينة لأن ما يحدث فى غزة يؤثر علينا بشكل مباشر، نحن لسنا فقط شعب واحد ولكن من يُقتلون فى غزة هم أهلنا وإخوتنا وأصدقاؤنا، كذلك أهلنا فى الكنائس، حيث يوجد شهداء مسيحيون فى الحرب على غزة وهناك شهداء بالكنائس، فقبل أيام قليلة تم قتل سيدات أمام حرم الكنيسة، وأمام هذا لا توجد نفسية أبدا للاحتفال بعيد الميلاد ونحن نرى الموت والدمار والخراب لأهلنا وشعبنا، هى حرب على كل الفلسطينيين».
 
وختم قوله: «من المستحيل الاحتفال عندما يمر شعبنا بإبادة جماعية ونحن نرسل رسالة – بما فيه الكفاية، نأمل أن تنتهى هذه الحرب فى أقرب وقت ممكن».