د. محمد طه
كتاب (لأ.. بطعم الفلامنكو)..
....... وقصاد أي كلمة (لأ) من جانب الابن أو البنت، يُشهر الوالدين على طول في وشهم سلاح (بر الوالدين)، و «لو ماسمعتش كلامي أنا مش راضي عنك»، و «شوف هيجرى لك إيه في حياتك لما اغضب عليك »، و «انت ابن عاق علشان بتقول لي لأ ».. فيحس الأبناء بالذنب.. ويتكسروا من جواهم.. ويضطروا لمزيد من الانحناء.. والانطفاء.. والنزيف النفسي البطيء.
وأصعب ما في ده كله.. إنه بيتم - أحيانًا بصبغة دينية، وباستخدام نصوص دينية مقدسة، وتحت لافتة كبيرة عنوانها التربية والتقويم..
ومين يقدر يستحمل غضب ربنا المرتبط بعدم رضا الوالدين؟
نعمل إيه بقى في ده كله؟
نقول لهم اسمعوا الكلام؟
قولي لبابا حاضر يا حبيبتي.. دوس يا بابا على ارادتى كمان وكمان؟
قول لماما حاضر يابني.. مش هاكون نفسي وهاكون زي ما انتي عاوزة يا ماما؟
نسيبهم يدفنوا نفسهم؟
نشجعهم على التشويه والوأد وسرقة الروح؟
هو ده يرضى ربنا؟ هو ربنا عاوز كده؟
في الحقيقة لأ.. وألف لأ.. بل مليون لأ.
بر الوالدين مش معناه أبدًا إني أسمح لهم يشوهوني ويؤذوني نفسيًّا أو جسديًّا.. ومش المقصود بيه خالص إني ألغي نفسي وأكون نسخة تاني من حد غيري. ومش هو إطلاقًا إني اغمّض عيني عن إحساسي وفهمي وتقديري الخاص للأمور، على حسب ظروفي وواقعي.
بر الوالدين مايكونش بإن الأبناء والبنات يدفنوا نفسهم، أو يكرهوا أنوثتهم، أو يشوهوا رجولتهم، أو يفسدوا علاقتهم بجسمهم.
بر الوالدين ماينفعش يسحق وجودي.. ويسلبني إرادتي.. ويحرمني من نفسي الحقيقية الفطرية.. ويعيّشني طول حياتي بنفس مزيفة، كل وظيفتها التأقلم مع هذا الكبت وذاك السواد.
البر الحقيقي للوالدين هو إني أكون نفسي.. وماكونش مسخ بشري يمشي على الأرض بسببهم، أو بسبب غيرهم.
البر الحقيقي للوالدين هو إني يكون ليا اختياراتي في الحياة، اللي ممكن
جدًّا تكون مختلفة عن اختياراتهم في الحياة.. وده حقي.
وبالمناسبة.. النجاح الحقيقي للتربية.. هو إن أبنائي يطلعوا مختلفين عني.. مش نسخة مكررة باهتة مني.
البر الحقيقي للوالدين هو إني أقول لهم (لأ) عند اللزوم.. (لأ) عند الأذى.. (لأ) عند الظلم والتشويه والافتراء.
الوالدين بشر.. والبشر يخطئ ويصيب.. ويقوى ويضعف.. وينجح ويفشل.. ويَعدِل ويَظلِم.
الوالدين ممكن ذكاؤهم يخونهم.. وتفكيرهم يستهويهم.. ورؤيتهم تكون قاصرة في بعض الأحيان.
الوالدين ليهم طاقة.. وقدرة.. وحدود.
الوالدين مش آلهة.. الوالدين بني آدمين.. ويسري عليهم كل ما يسري على البني آدمين.
وإذا كان أي حد بيسيء استخدام الدين زورًا وبهتانًا، علشان يدي تصريح لنفسه أو لغيره بفرض سطوته على أبنائه وحرمانهم من آدميتهم.. فالرد والدفاع رضه موجود في الدين، بشكل لا يقبل أي لبس أو خلط.
طيب.. و «ولا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما ؟»
طبعًا.. من دون جدال.. ماحدش قال كده.. إني أقول (لأ) بكل أدب واحترام، غير إني أقل أدبي وأتأفف وأطول لساني وأنهرهما.
طيب.. «وبالوالدين إحسانًا ؟»
جدًّا جدًّا.. بس الإحسان مش معناه الطاعة العمياء والسماح بالتشويه والظلم والأذى.. خالص..
والأوضح والأكثر مباشرة من كل ده، هو قوله تعالى: «وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا ».
والتفسير مستحيل يكون قاصر على إن الدعوة للشرك معناها إن حد في القرن الواحد وعشرين يطلب من ابنه إنه يعبد النار مثلاً.. لا.. المعنى أوسع من كده بكتير. وأرى إن أهم تفاسيره إن الأب والأم ماينفعش يطلبوا من أولادهم إنهم يتعاملوا معاهم هم شخصيًّا، على إنهم آلهة مقدسة.. لا تخطئ ولا تذل ولا تنسى.
هو فيه شرك أكتر من أب عاوز يخلي نفسه إله يأمر فيطاع؟
هو فيه شرك أكتر من أم تتعامل مع أبنائها على إنها إلهة تعلم ما لا
يعلمه أحد؟
هو فيه شرك أكتر من أب وأم، بيتصوروا إنهم ملكوا أولادهم ومن حقهم يعملوا فيهم اللي هم عاوزينه؟
أنا مصدق إن ده أحد مستويات (ما ليس لك به علم).. مش بس عبادة الأوثان والأصنام والنار والحجارة.
وماننساش أبدًا إنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ».. ومافيش معصية أكبر من تشويه النفس واستباحة حرمتها ووأدها بالحياة.
وماننساش كمان الراجل اللي راح لسيدنا عمر بن الخطاب يشتكي له من عقوق ابنه، وبعد ما سيدنا عمر سمعه وسمع ابنه قاله: «جئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك .»
نحطهم جوه عنينا.. لكن عند التشويه.. نقول لهم (لأ).
نرفعهم فوق راسنا.. لكن عند الظلم.. نوقفهم.
نشيلهم من على الأرض شيل.. لكن عند الأذى.. من حقنا نحمي أنفسنا..
تقديس البشر في البيت.. يؤدي إلى تقديس البشر في الشغل.. يؤدي إلى تقديس البشر في الشارع والجامع والكنيسة، وكل مكان نرى فيه صورة (الأب) أو (الأم).. وده مش بس بيظلمنا.. ده بيظلمهم هم كمان.. لأنه بيحرمهم من إنسانيتهم وحقهم الطبيعي في الضعف والخطأ والفشل.
والتعامل معاهم ومع غيرهم على إنهم بشر، هو أول وأهم خطوة في مساعدتهم على الرؤية.. ومنحهم حق المساعدة.. ووضع أقدامهم الكريمة على طريق التغيير.. اللي هم أحق وأولى الناس بيه.. لأنهم غالبًا قاسوا في حياتهم أكتر مما قاسينا.. واتأذوا في نفوسهم أكتر مما اتأذينا.. واتشوهوا أكتر ما اتشوهنا.
ولو الدايرة دى ماتكسرتش عندنا.. يبقى احنا كمان هانورثها لأولادنا.. وأحفادنا.. بكل ما فيها من معاناة.. وسواد.. وشعور مقيت بالذنب..
د. محمد طه