مدحت بشاى
لقد رأى المجوس نجمًا فى الشرق، فأتوا ليسجدوا له، هذا النجم الذى هدى المجوس إلى المسيح، ورافقهم من مقرهم البعيد، وهداهم إلى الطريق الموصل إلى بيت لحم، لا يزال يهدى الناس إلى الإيمان وقيم الخير والهداية، ولكنهم قلائل الذين ينتبهون إلى هذا النجم الهادئ.
ويعد هذا النجم بمثابة الضمير الذى يضىء نفوس وعقول الناس، وقد وصفه المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى بقوله: «إن الله كمخلص يريد أن يقود كل الناس إلى الخلاص»، وحيث الشعب الجالس فى الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور «يُقصد بوادى ظل الموت: التجارب والآلام والضيقات فى هذا العالم وموت الجسد يُدعى ظل الموت، لأننا نجتازه إلى حياة أفضل، أما موت الخطاة فهو موت أبدى وليس ظلًا..»، «نور يفرحون به أمامك كالفرح فى الحصاد لأنه يُولَد لنا ولد، ونُعْطَى ابنًا، وتكون الرياسة على كَتِفِهِ، ويُدعى اسمه: عجيبًا، مشيرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسى داود وعلى مملكته ليثبِّتها ويَعْضُدَها بالحق والبرِّ من الآن إلى الأبد».
هكذا حدثتنا آيات العهد القديم لتصف وتحكى تفاصيل مشهد الميلاد المُفرح قبل قدوم المولود العظيم بأزمان كثيرة.
وبالعودة إلى مشهد الميلاد.. لم تكن هناك شمعة أو سراج والمكان مظلم، ولم تكن هناك ما يشيع حالة التدفئة، والليلة باردة كما تُردد أناشيد ميلاد السيد المسيح القديمة التاريخية واصفة ذلك الكهف الفقير المتواضع الذى شهد ميلاد المسيح الفادى وقد خلا من أى مظاهر الراحة والأبهة التى حفل بها قصر «هيرودس»، بل حتى من أبسط أسباب العيش المريح التى كنت تجدها فى دوار ريفى متواضع، وكانت المغارة باردة، مظلمة، مقبضة، ولكن من سواد قتامتها أبرق نور أضرم النيران وأضاء شموع السلام والخير فى العالمين، ذلك لأن «نفس الإنسان سراج الرب»، وقد ألفت نفس الإنسان عند مذود بيت لحم غبطة وإيمانًا.
وعالمنا اليوم تخيم عليه ظلمات سوداء وظلال عابسة، ولم يسبق أن شهدت الإنسانية منذ عهد جانكيز خان وجحافله المخربة، مثل هذا الجوع المادى والعاطفى والظمأ لمشاعر المحبة، ونزع جماعات من أوطانها بغير سبب، والاضطرابات السياسية، بعد أن شن الخوف واليأس حربًا شعواء على قلوب كثيرة فى شتى البلدان.
لنضىء سراج الرجاء مهما اشتدت ظلمات عبثية الأحوال على الأرض، لا لأن الإنسان قد أضاع رجاءه كليًا، ففى أظلم الأيام وأحلكها عمر قلبه بالرجاء فى حلول يوم تكون فيه الحياة أرقى وأصفى، وانتهاء حروبًا ظالمة بشعة باتت تستهدف صدور الأطفال ومشافى التداوى ومصادر الارتواء والغذاء، وتقلص ظل قسوة الإنسان على أخيه الإنسان هذه كانت فى أجيال كثيرة الرغبات والأمانى التى اختلجت فى نفوس الواقفين تحت الظلال العابسة، ولكن هل هذه الآمال والأمانى صحيحة ؟.. جميل أن نتمنى يوم تحقيقها.
ومعلوم، إن لم تتأصل المحبة فى نفس الإنسان لا يمكنه أن يفهم محبة الله، والنفس المعتدة بذاتها تتناول جميع الأفضال كأنها قضايا مسلم بها، فإذا ما حلت النكبات تمسى متشائمة مكدودة، ثم تروح تلعن العالم والدنيا.
وتنبثق المحبة من نبع داخلى، أما إذا لم تتفجر من مصدر داخلى فلا يمكنها أن تقدر قيمة محبة الآخرين، هى أشبه بالرجل الغنى الذى لا يقدر أن يفهم ما يعانيه الفقير المكدود من شقاء وعناء.
إنها المحبة والتواضع والفضيلة والقيم التى نادى بها طفل المزود من «بيت لحم» التى بات أهلها يستغيثون اليوم بطلب مراحم الله ونجدته من مظالم محتل بشع.
ولعل من المفيد التذكير بما جاء فى تقرير رفعه الحاكم الرومانى «بيليوس لنثيوس» إلى الإمبراطور «طيباريوس قيصر»، قائلًا: «إنه يوجد، أيها القيصر، فى عصرنا هذا، رجل اسمه (يسوع)، يسير على مقتضى الفضيلة العظمى.. والحق إننا نسمع، يا مولاى، عن (يسوع) هذا أمورًا عجيبة، فإنه يقيم الموتى ويشفى المرضى بكلمة واحدة!!! وهو إنسان معتدل القامة، جميل الصورة، ذو هيبة كاملة البهاء، حتى لَيُضطر من ينظر إليه أن يحبه ويخافه.. وعيناه تشعان كالشمس فلا يمكن لإنسان أن يحدق فيهما، وإذا عنَّف أرهب ! وإذا وعظ أبكى! وهو يبدو فرِحًا، وإن كانوا يقولون أنهم ما رأَوه ضاحكًا قط !.. والحق إن الناس ما سمِعوا قط مثل ما سمِعوا من (يسوع) هذا.. فى حين أننى أسمع أنه ما أساء إلى أحد قطّ، بل على العكس يقول أولئك الذين عرَفوه واختبروه أنهم حصلوا منه على نعمة عظيمة وصحة كاملة...».
ولعل من الضرورى الرد على مزاعم شياطين أهل الاحتلال الإسرائيلى، والتذكير بما جاء فى حديث لقداسة البابا شنودة الثالث أمام الحضور فى احتفالية بمناسبة اليوبيل الذهبى لجامعة الدول العربية عام 1995 عن القضية الفلسطينية والقدس، قال: «أما عن القدس، فاليهود يسمونها أرض الميعاد، ويقولون أنهم عاشوا فيها بوعد من الله، وأنا أقول لهم إنهم جاءوا إليها ليس بوعد من الله، وإنما بوعد من بلفور». See less
نقلا عن الدستور