عادل نعمان
.. ولعلك أيها القارئ العزيز ترى أن أهم ما يميز دولة الرسول هذا المدد الإلهى فى التشريع والأحكام، حين يحزب المسلمون الأمر، أو تضيق عليهم الدروب والمسالك، أو يشق عليهم ما كان قائما، إلا أنها لم تستحوذ تمامًا على حياة الناس وأعمالهم ومعاملاتهم، أو تستقطبهم وتفصلهم عما ألِفوه واعتادوه، فيغتربون وينعزلون.. وكان للرسول بحكم الولاية والريادة والقيادة نصيبٌ من هذه التشريعات منفرد أو بالمشاورة، يعود عنها ويراجعها إذا لزم الأمر، وللناس وعاداتهم ومكتسباتهم الحضارية المتتابعة والبيئة الولادة والتفاعل مع الغير نصيب أيضا منها، يستبدلون وينسخون ويعدلون منها ما شاءوا واحتاجوا، فلم تكن الأحكام متعارضة، بل كانت مناسبة ومتوافقة، فما نزل من عند الله كله خير، وما آتاهم الرسول وهم أحباؤه ورعاياه كله نفع ومصلحة، وما جاء به الناس عبر الزمن هو انتخاب واختيار لما ارتضاه الناس وألِفوه واخترعوه وشرعوه عبر الحقب المتتالية.. وهذه هى الحياة كى تسير سيرتها الطبيعية، ويحتملها الناس دون عناء أو غربة أو مشقة.
وعن المدد الإلهى فى التشريع، فقد نسخ الله عن نفسه منه ما شاء وعدله، وقال فيه: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).. و«النسخ» يعنى الرفع والإزالة، أو قل إلغاء «بغير»، ولا نشك فى أن النسخ ما هو إلا لمصلحة العباد، وما استدعى من تعديل فقد استجاب الله له ورفعه وعدله، وإلا فما كان يعجز الله أن يأتينا بالناسخ «الحكم المعدل» دفعة واحدة، وعلى الناس السعى إليه وترك ما فى أيديهم.. إلا أن هذا يعارض مسيرة الحياة وحركتها الطبيعية الهادئة الساكنة، وكذلك التمدن والرقى المتدرج الواقعى، فتتخاصم الطرق ويضطرب الناس وتختل الموازين.
ولنا بعض الأمثلة «المنقول والمتواتر».. المثال الأول: الآية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)؛ فرض عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك مالا للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه دون تفريط.. قد نسخت وبدلت بالآية (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ).. الخ الآية.
المثال الثانى: الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، والصوم كان اختياريا فمن يقدر عليه ولا يصوم ففدية طعام مسكين، نُسخت بالآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، وألزم الجميع بالصوم عدا المريض ومن على سفر فعدة من أيام أُخر. المثال الثالث: الآية (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)، فإن كف الكافرون عن قتالكم وتابوا فإن الله غفور رحيم، نسخت بالآية «آيات السيف» (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ). المثال الرابع: الآية (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) نسخت بالآية (إنما الصدقات للفقراء والمساكين ).. إلخ الآية.. والأمثلة كثيرة.
إلا أن الإفراط والتوسع فى النسخ دون الحاجة يوقع الناس فى حيرة أيضا، وقد كان من الأفضل للفقهاء أن يضيّقوه كثيرا، فمثلًا فى حالة نسخ آيات الموادعة بآيات السيف وقتال المشركين، فلماذا لا تكون «آيات السيف» كما أطلقوا عليها «وأمر القتال تكليف خاص بأصحاب النبى وليس غيرهم، وأن المقصود بالمقاتلين هم المشركون فى حينهم وزمانهم فقط، ولا تنسحب على كل المشركين وكل الأزمان والأمصار، وهى عداوة لا طائل منها، ونجنى ثمارها الآن، على أن نعتبر آيات الموادعة والمسالمة هى أصل التعامل مع الجميع، إلا فى حالة العدوان، فيحكمها (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).. وتستكمل بالآية (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) فليس هناك أعدل من هذا، وهو الأقرب إلى فضل الله ورحمته على عباده.. وهو رأى له جمهور أيضا.
وإذا كان النسخ مرهونا بتغير الأحوال، وقدرة الناس وطاقاتهم، وتعارض الحكم مع واقع جديد ومرهون بسير الحياة ومسارها وطبائع الناس وما يعتريها من تغيير وتبديل، واحتياجات الناس وما يستجد فيها من مستحدثات وما يتراكم عليها من متغيرات، وما استيسرت به الأيام، وما تهيأت له النفوس والأحوال وما طرأت عليها من علل وأسباب، وما اجتمع عليه الناس من تغييره وتبديله ليتوافق مع الحاجة والمصلحة، فإذا قبض الرسول وهو المرسل والوسيط بين السماء والأرض، وحامل الناسخ ورافع المنسوخ، والنسخ واجب وملزم يوما بعد الآخر.. فمن يا ترى يحمل هذه المهمة سوى العقل؟!.
والمقصود بالعقل هو عقل الأمة وضميرها، وقرارها المدروس دراسة علمية متخصصة، كلٌّ فى مجاله، والمنهج العلمى فى التنفيذ يراعى كل الأبعاد والزوايا دون مواربه.. المحايد المحافظ المرتب لا تتعارض أحكامه مع مصالح الناس وقيمهم ومبادئهم، ويحافظ على الأوطان والمواطن وحقوق الناس وحياتهم وممتلكاتهم، ويصون أديانهم وشعائرهم ومقدساتهم.. فلا أصدق ولا أولى من هذه الصلة والواسطة بين السماء والأرض.. العقل!!.
.. وللحديث بقية.
(الدولة المدنية هى الحل).
نقلا عن المصري اليوم