كمال زاخر
عرف العالم عيد الأم قبل نحو قرن من الزمان بين عامى 1912 و1914، كانت الانطلاقة الأولى من الولايات المتحدة الأمريكية ومنها انتقلت إلى بقية العالم، وإن اختلفت أيام الاحتفال، وفى مصر التقط الفكرة الكاتب الصحفى على أمين فى خمسينيات القرن المنصرم، وطرحها فى عموده اليومى "فكرة" فى جريدة الأخبار والذى تميز بجمله القصيرة المبدعة، وموضوعاته المحفزة على التفكير والحوار، ولقى تأييداً جارفاً من القراء، وتلقى العديد من الرسائل منهم، لينتهى الأمر إلى تحديد 21 مارس يوماً للاحتفال، وهو اليوم الأول- فلكياً- لفصل الربيع، وكتب على أمين بعدها يحث الشباب أولاد وبنات على أن تكون المناسبة فرصة لوصل ما انقطع مع أمهاتهم، وتجديد المودة والرحمة ورد الجميل وبعث الدفء فى العلاقات الأسرية، والالتفات للأرامل والأيتام لتعويضهم عن افتقادهم للطرف الآخر الغائب، وأن تكون هداياهم رمزية تحمل من المعانى ما يفوق قيمتها المادية.

على أن عيد الأم تعرض لموجتين من الهجوم، الأولى عندما اختلف على أمين وتوأمه مصطفى أمين مع النظام الحاكم، فى النصف الثانى من الستينيات، فشنت عليهما حملة شعواء عبر الصحف والمجلات، تستنكر أن يحتفل بعيد للأم فى وجود أيتام فقدوا أمهاتهم، والاحتفال يجرح مشاعرهم ويقسو على يتمهم، فكان أن صار اسمه عيد الأسرة، لكن الحس الشعبى أعاده إلى مسماه الأول.

ثم تغشانا موجة التطرف فى السبعينيات لتهاجم العيد مجدداً، تحت وابل من قذائف التحريم، التى لا تعترف إلا بعيدين وفق تأويلاتهم الضيقة والمفارقة لروح الوسطية المصرية، فكان إن أطلق عليه "يوم الأم"، ويتصدى الحس الشعبى مجدداً لهذه الموجة ويكسرها وينتصر لمسمى عيد الأم. بل ويختزن فى ذاكرته قولاً عبقرياً "كل يوم يمر بخير وسلام عيد"، فيلقم المتشددين حجراً.

وفى هذه الذكرى تسترجع الذاكرة ما اختزنته من مواقف كانت الأم فيها مصدر الهام ودعم ومساندة، تظل عالقة طالما بقى المرء حيا، تلح على ذهنى واحدة منها:

الزمان عام 1935
وجدت نفسها فى القاهرة وهى شابة فى مقتبل العمر فى رفقة زوجها نازحة من قريتها القابعة في حضن الجبل- الغنايم هناك فى آخر نقطة على حدود أسيوط مع سوهاج
كان معها ابنها البكر وهو بعد طفل يكاد يكمل عامه الثامن، لتبدأ قصة كفاح مصرية تتكلل بالنجاح وتثمر أسرة من خمسة أبناء، ويتخرج الابن البكرـ أيوب ـ فى كلية الطب قصر العينى، وكان له من اسمه نصيب وافر، وينجح الأب فى تجارته ويجد لأسرته مكاناً فى الطبقة الوسطى... وتموج سفينة العائلة فى تضاريس الحياة بين قمم وقيعان.. وتكتب واحدة من القصص المصرية الرائعة رغم فواصل الألم المتتالية...

الزمان عام 1971
بغير مقدمات وقبل ان يرحل العام بأيام معدودات يرحل الابن البكر- 44 عاماً- عن دنيانا بعد أن صار طبيباً ملء السمع والبصر وبعد أن حفر له مكاناً أثيراً فى قلوب كل من حوله، وكان لقاؤنا الأول مع الموت لأتعرف عليه عن قرب وأدرك لماذا سماه بولس الرسول عدو، بل وآخر عدو يبطل.. كانت الصدمة متجاوزة الإحتمال والفهم.. وكنت فى السنة النهائية فى كلية التجارة.. استعد لما تخيلته وطمحته فى مقبل الأيام
::::::::

كنت خادماً بمدارس الأحد
كانت أمى صامتة كل الوقت
كان عنوان أيامنا الحزن..
جلست إلى جوارها أسعى لمواساتها أو هكذا ظننت
رحت استجمع حكايات الرحيل والأبدية والسماء وفرح الفردوس
ولقاء رب المجد ووعده لنا بحياة الفرح الدائم و....

لم تكن تبكي لكنها صامتة
قالت لى أنا مطمنئة على أخوك حبيبى
ظننت أنها تردد ما نؤمن به وما حفظته من الكنيسة أو من حكايات أبى وهو يحكى لها قصص الكتاب وكلمات المسيح
لكنها كانت تحكى ما حدث معها ليلة أمس:
وقفت كعادتها التي لم تنقطع حتى فى التجربة لتصلي فى الصباح الباكر...
وإذا بها تجد الغرفة وقد صارت بلا جدران منفتحة على الأفق والسيد المسيح يقف غير بعيد عنها.. يحتضن ابنها.. مالك يام أيوب.. ابنك معايا.. لو عوزاه ارجعهولك..
استجمعت شجاعتها التي لم تفارقها وسلامها الذى كان يغمرها وقالت لا يا سيدى كتر خيرك بس اسندنى.. ضعيفة أنا.. وسبقتها دموعها..
::::::::

كانت لحظة فارقة لى انطلقت منها للتعرف على شخصه المبارك.. وكان صباحا وكان مساءً يوماً جديداً ورؤية جديدة لمعنى أن تكون فاعلاً وصوتا صارخا فى برية حمقاء قاحلة
::::::::
أمى "أم أيوب" كم كنت معلمتى فى صمت ابلغ من الكلمات.. أشتاق إليك.
نقلا عن البوابة نيوز