مودي حكيم
هتفت الملائكة عندما تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ: «الْمَجْدُ للهِ فِى الأَعَالِى، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ». لتزف إلى العالم البشارة السارة بمولد السيد المسيح، ففى مثل هذه الأيام، الميلاد كان معجزة فى بيت لحم. بوقت ساد العصيان والانقسام المدينة المقدسة، فجاء ملك السلام ليصنع سلامًا، فى مجتمعات كانت غارقة فى المادية البحتة.. حال مجتمع بنى إسرائيل وأطيافه، وما أصاب الديانة اليهودية مِن تفرُّق لأتباعها وانحراف عن الرسالة الأولى، كما وصفها عباس محمود العقاد فى كتاب «حياة المسيح» وما ساد مجتمعَهم من ظروف سياسية واجتماعية سبقت ميلاد المسيح. كما أن كتاب «المسيح عيسى ابن مريم» لعبدالحميد جودة السحار يؤكد حقيقة أن سمة بنى إسرائيل هى الأخذ بمظاهر الدين وقشوره، والابتعاد عن روحانيات التعامل مع الله وعمى القلوب، والصلة التى بينهم وبين الله جعلوها قرابين تُقدم لا ينال الله دماؤها ولا لحومها، ولكن يناله التقوى منكم.
اليوم، عاد الفكر البشرى معتمًا ومظلمًا، نعيش عصرًا استثنائيًّا فى متغيراته ومستجداته وكشوفه وبلواه، مع تغلغل صهيونى فى فلسطين والوطن العربى وإفريقيا.
ونتساءل: كيف سيحتفل العالم بمولد المسيح، ملك السلام؟، بحلول عام 2024 بعد الميلاد وحكام إسرائيل يُعيدون جريمة قصة ملك اليهود هِيرُودُسَ، صاحب المذبحة الدموية، التى قتل فيها جميع أطفال بيت لحم وجوارها، الذين لم يبلغوا العامين من عمرهم. لقد حوّل الصهاينة هتاف الملائكة، وترنيمة كَوَكَب الصَّبح.. إلى «على الأرض الخراب، وعلى الناس الحزن».
يأتى العام الجديد.. وقد مر حوالى شهور ثلاثة منذ شنت حماس هجومها على إسرائيل، ويظل من غير الواضح إلى أى مدى قد تستمر الحرب بين إسرائيل وحماس، ماذا سيحدث مع الصين وتايوان؟.. والحرب الروسية على أوكرانيا، والبنتاجون يراقب الصين عن كثب، فى وقت يواصل فيه آلاف المهاجرين عبور الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك كل يوم.
وتواجه إفريقيا، مع اشتداد ضغوط الديون، العديد من الأزمات فى أسواقها، حيث يستغل صناع السياسات الحاجة إلى تمويل المناخ والإصلاح المالى العالمى على أمل معالجة أعباء الديون المتزايدة فى الداخل. وقد زعم الرئيس الكينى ويليام روتو، ورئيس الاتحاد الإفريقى، موسى فكى محمد، ورئيس بنك التنمية الإفريقى أكينوومى أديسينا، بشكل مشترك أنه «فى إفريقيا، لا يمكننا حل قضية المناخ ما لم نصلح قضية الديون»، وأن أفريقيا «تحتاج بشكل عاجل إلى حل لمشكلة المناخ».
وفى حين يخلط صناع السياسات على نحو متزايد بين الحاجة إلى تمويل المناخ وتخفيف أعباء الديون على نطاق أوسع، فإن ضغوط الديون المباشرة حادة، وترتفع تكاليف خدمة الديون إلى عنان السماء. والتكهنات حول عمليات إعادة هيكلة الديون التالية والتخلف عن السداد سوف تتزايد.
وتختلف درجة التعرض للانقلابات فى إفريقيا من بلد إلى آخر، مدفوعة بعوامل داخلية وخارجية. وسوف تستمر الصدمات الاقتصادية المفاجئة والحادة، وخاصة الأزمات الغذائية، والأزمات الأمنية الطويلة، فى الوقت الذى تستمر فيه محاولات روسيا لبسط النفوذ، حيث تسعى إلى دعم أنظمة معينة فى إفريقيا كجزء من منافستها الجيوسياسية مع الغرب.
ومكمن الخطر هنا هو أنه مع تركيز الاهتمام الدبلوماسى العالمى على الشرق الأوسط وأوكرانيا، ما لم تتمكن جهود الوساطة التى تقودها القوى المتوسطة مثل مصر والمملكة العربية السعودية من إحراز التقدم، ستستمر التقلبات فى أسواق النفط فى عام 2024، وقد تؤدى العديد من النزاعات المستمرة والمتغيرات الجيوسياسية الأخرى إلى زيادة ضغوط الأسعار التصاعدية. يُعد الصراع بين إسرائيل وحماس أكبر عامل غير متوقع لأسواق النفط مع اقتراب عام 2024، إلا أنه لا يوجد حل سريع، كما أن دعم إيران لجماعتها فى جميع أنحاء المنطقة يزيد من خطر سوء التقدير. خلل أو عمل مارق يمكن أن يؤدى إلى تصعيد إقليمى وتعطيل سوق الطاقة. ومن ناحية أخرى، فى أسواق الغاز، يفرض الصراع بين إسرائيل وحماس حالة من عدم اليقين بشأن الاضطرابات المحتملة فى المنبع أو المخاوف المتعلقة بالشحن نظرًا لأكثر من 20% من تدفقات الغاز الطبيعى المُسال العالمية عبر مضيق هرمز بالقرب من إيران.
بالإضافة إلى أن العام المقبل سوف يتسم بمناقشة عميقة داخل الولايات المتحدة حول الدور العالمى الذى قد تلعبه أمريكا فى المستقبل، وسوف تراقب بقية دول العالم نتائج هذه المناقشة بقدر عظيم من الذعر. على مدى ثمانين عامًا حتى الآن، احتضنت الولايات المتحدة دورها كزعيم عالمى، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحولت أغلبية متزايدة من الجمهوريين ضد هذا الدور التقليدى. وللمرة الأولى منذ 50 عامًا من استطلاعات الرأى، يعتقد المزيد من الناس أن الولايات المتحدة يجب أن تبقى بعيدًا عن الشؤون العالمية، وهو ما يعكس وجهة نظر المرشح الرئيسى للحزب للترشح للرئاسة، الرئيس السابق دونالد ترامب. وأثناء وجوده فى منصبه، روّج لنهج «أمريكا أولًا».
الكلمة التى ستحدد عام 2024 هى «السلام». إذا كان هناك أى شىء نبحث عنه فى عام 2024، فسيكون السلام. السلام أشبه بصحة الإنسان: أنت لا تقدره عندما تمتلكه، ولكن بمجرد أن يختفى، تدرك مدى أهميته وتبذل جهودًا هائلة لاستعادته. وسيكون السؤال: ما الذى يشكل السلام بالضبط؟، هل يعنى ذلك انسحاب روسيا من أوكرانيا إذا تمكنت من الاحتفاظ بشبه جزيرة القرم ودونباس؟، فهل نرى إسرائيل تسعى للسلام وتتوقف عن تهجير مئات الآلاف من سكان غزة؟، فهل تتجنب الصين غزو تايوان، فى حين تستمر فى ترهيب ساستها وشركاتها ومواطنيها؟، هل سنحاول هذا العام حل هذه المعضلات وأمثالها، فالرغبة فى السلام ستستمر فى النمو، بينما تتزايد التوترات والأزمات والحروب. ورغم أن معظمنا يحلم بالمزيد من السلام فى العام الجديد، فمن المرجح أن تندلع صراعات جديدة.
لقد كان العالم متصدعًا لبعض الوقت الآن. لقد كشفت أزمة المناخ، وكوفيد- 19، والغزو الروسى لأوكرانيا، والحرب فى الشرق الأوسط، عن جوانب النظام الدولى الناشئ، وأسهمت فى تفكيكه.
إن العمل المناخى العالمى هو الضحية الكبرى لنظامنا الدولى المنهار. ويُخيم خطر الانقسام بشكل كبير على القيادة الغربية أيضًا، بعد أن كشفت الحرب فى أوكرانيا عن التصدعات فى العلاقات مع العديد من الدول فى العالم النامى، والتى اتسعت مع تآكل مصداقية الغرب بسبب الحرب فى الشرق الأوسط.
ثم هناك أوروبا، التى غالبًا ما تنجح فى اغتنام الفرص فى الأزمات عندما تتمكن من الوقوف متحدة. ولكن فى ظل التحركات العنيفة ضد سياسات المناخ، والانقسامات حول السياسات المالية والصناعية، وتجدد النزاعات فى السياسة الخارجية، فإن خطر الانقسام يتعمق هنا أيضًا.
حينها... وعلى الأرض السلام.
نقلا عن المصري اليوم