فاطمة ناعوت
اليوم يبدأ عامٌ جديد نرجوه رؤوفًا حانيًا على هذا العالم الذي لم يتعلّم بعد، بكل أسفٍ، كيف يرسمُ الفرحَ كاملًا على وجوه الأطفال على النحو الذي ينسون به الكَدَرَ والوجع والفقر والفقد. نسألُ اللهَ الرحمنَ الرحيم أن تدخلَ السيوفُ أغمادَها دون خروج، وأن تتعطّل الرصاصاتُ في فوهاتها فلا تنطلق، وأن تُحقن الدماءُ فلا تُهرق. نسألُ الله أن تتوقف الحروبُ في هذا الكوكب المُرزأ بالمحن والكوارث والجوائح، وأن يختفى الاحتلالُ والظلم والتجبّر. نسألُ الله أن يُشفى كلُّ مريض، وأن يعودَ كلُّ غائب، وأن يُنصر كلُّ مظلوم، وأن يرعوى كلُّ ظالم.
في مثل هذه الأيام المُبهجة من العام الجديد، تُتوَّجُ أشجارُ الصنوبر والسرو بُندف الجليد الصقيعية، فيكتسى الأخضرُ بالأبيض في لوحات فنيّة ساحرة، وتتوهَّجُ البيوتُ بالثُريّات المضيئة، فينتشرُ الدفءُ في الشوارع الباردة. هكذا يكون الحالُ في مناطق العالم البعيدة. قلوبُ الأطفال، وكذلك قلوبُ الكبار التي لم يصبها الكبر وظلّت على طفولتها، تنتظرُ في هذه الأيام «بابا نويل»، أو «سانتا كلوز» وهو يتجوّل فوق عربة ملونة مبهجة تجرُّها الأيائلُ والظِّباء، مُحمّلة بالهدايا في عُلبٍ ذات شرائطَ من الحرير. يتوقفُ «سانتا» عند كل بيت ويصعد إلى أعناق المدافئ، ثم يهبط منها إلى غرف المعيشة ليُعلّق هداياه في شجرات الكريسماس، دون أن يراه أحد. حين كنّا صغارًا، كّنا ننظرُ قدومَه بهداياه؛ انتظارَ الظامئ لكأس ماء. أتذكّر جدتى الجميلة التي كانت تُزيّن لنا الشجرةَ بالنجوم والأنوار وقطع الحلوى، ثم تعلّق عليها الهدايا كى نفرحَ مع أصدقائنا وجيراننا المسيحيين في عيدهم، مثلما يفرحون معنا في أعيادنا، ويزيّنون معنا الشوارع في رمضان بالأوراق الملونة والفوانيس. حين كّنا صغارًا، لم نكن نعرفُ مَن فينا مسلمٌ ومن مسيحى، نحن أبناءُ الحياة التي تمنحُ الجميع حقَّ الفرح دون تمييز.
وفى ظلّ حروبٍ غاشمة وجوائحَ فيروسيةٍ وأزمات اقتصادية كاسحة وغلاء معيشى طاحن، لفت انتباهى خبرٌ صغير في إحدى الصحف الغربية؛ منحنى بعضَ الرجاء في أن «الإنسانَ» لا يستحقُّ هذا اللقب النبيل إلا حين يحمل شيئًا من روح الله. رجلُ أعمال أمريكى قرّر الاحتفال بالكريسماس وفرحة العام الجديد بطريقة جميلة ومبتكرة، تتناسب مع الضائقة الاقتصادية القاسية التي تمرُّ بها البشريةُ جمعاء. تقمّص الرجلُ شخصية «بابا نويل» الذي يدور على مداخن البيوت ليمنح الأطفالَ ما تمّنوه من هدايا؛ لكنه بدلا من ذلك قام بدفع فواتير 144 أسرة مستحقة على جيرانه لجهاز الخدمات العامة من ماء وغاز وكهرباء ووقود وغيرها. وكانت تلك العائلات مهددة بقطع تلك الخدمات عنها لتأخرها في تسديد الفواتير. وقال الرجلُ في تصريحاته إن جائحة كوفيد وما تبعها من متحورات أجبرت الكثيرين على الانقطاع عن العمل، فأصبح الناسُ في معظمهم غير قادرين على تلبية احتياجاتهم من الطعام والسكن والدواء، إضافة إلى تراكم الفواتير المستحقة عليهم، فكان قرارُه بتخفيف حدّة حزنهم بسداد ديونهم في حضرة الميلاد المجيد.
هذا رجلٌ استوعب الرسالةَ التي ترسلها السماءُ إلى الأرض مع النوازل. أن نعود إلى إنسانيتنا ونتحرَّرَ من الأدران النفسية التي تُباعد بيننا وبين باحة الإنسانية. أن نسمو فوق أنانيتنا ونتعلم كيف نحبُّ الآخرَ؛ مهما اختلف عنّا وتباعدت بيننا المسافاتُ فكريًّا أو دينيًّا.
تعوّدنا أن نُزيّن شجرات الصنوبر في العام الجديد بالنجوم الملونة وكرات الثلج والأجراس وثمرات الفواكه المضيئة. واليوم علينا أن نتعلّم كيف نُزيّن شجرات أرواحنا بالحب والحنوّ والطيبة والتحضّر حتى يحبّنا الله، علّه يزيح عنّا تلك الغمّة الصعبة. وقد نبهنا اُلله تعالى في غير موضع بأن الخير والشرَّ في هذا العالم ليس إلا حصادَ ما زرع الإنسانُ لنفسه. فيقول تعالى في سورة الأنفال: «ذلك بأنّ اللهَ لم يكُ مُغَيِّرًا نِّعمَةً أنعمَها على قَومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وأن اللهَ سميعٌ عليمٌ»، وفى سورة «الرعد» يقول تعالى: «إنَ اللهَ لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسِهم، وإذا أراد اللهُ بقومٍ سوءًا فلا مَرَدَّ له وما لهم من دونه من والٍ».
والحقُّ أننا لو لم نتعلم مما يمرُّ به العالم من حروب وجوائح ونوازل، ونخرج منها أكثرَ أخلاقًا وحنوًّا وتحضّرًا وجمالا، فيا خُسران بنى الإنسان!، النوازلُ الفاجعاتُ ليست إلا مُعلِّمًا طبيعيًّا تمنحُه الطبيعةُ للإنسان ليتّضِعَ ويتهذَّبَ ويتأدَّبَ ويسمو ويتأمل نفسه، ليعرف كم هو صغيرٌ وكم هو بحاجة إلى أشقائه في الإنسانية، فلا يتعالى ولا يتنمَّرُ ولا يغترُّ بمال وجبروت وصحّة. وهذا المعلِّم الحاسمُ أتعابُه باهظةُ الثمن، بكل أسف. فليس من تعليم مجانىّ. لهذا وجب علينا التعلُّم بقدر ذلك الثمن الباهظ الذي ندفعه، لكيلا نكون جماعةً من الحمقى. ميرى كريسماس أيها العالم.
نقلا عن المصري اليوم