عادل نعمان
والرسول (ص) كان له نصيب من الأحكام والنواهى بحكم الولاية والريادة والقيادة، يعود إليه الصحاب فيحظر ويمنع ويجيز ويسمح بما يتوافق مع مصالح الناس وحاجاتهم، وربما يراجعه ربه فى الحكم إذا كان منافيا لمنهج الدعوة، أو مناقضا لحكم قادم، كما حدث حين جاءته حبيبة بنت زيد تشكو زوجها سعد بن ربيع، نشزت عليه فلطمها على وجهها، وردها إليه برفقة أبيها كى تلطمه على وجهه كما لطمها، وقال: «ليس له هذا»، إلا أن الله قد عدل حكمه قبل وصولهما إلى بيتها، فاستدعاهما وقال لهما: «أردت أمرا وأراد الله غيره، وتلا عليهما الآية (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا)»، وأوقف الحكم قبل تنفيذه.
وليس من تعارض بين تشريعات النبى فى هذا المجال وبين ما حدده القرآن فى متنه عن الإبلاغ عن الله، ليس غير، كما فى الآية «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ» والآية «إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ».. وكان هذا الحظر فيما يخص التشريع عن الله فقط، لكنه لا يمنع أن يكون الرسول مقررا ومشرعا بحكم الولاية والريادة لتسيير أمور الرعية، إلا أنه ليس وحيا ولا تنزيلا أو مقدسا ولا يتجاوز بشرية النبى.
ومما يؤكد ذلك أن الرسول كان يتخذ من النواهى والأوامر ما يراجعها ويعود عنها، فقد أمر بعدم زيارة القبور، وعاد عنها حين وجدها ترقق القلوب والمشاعر، ومنع الناس أكل لحوم الأضاحى فوق ثلاثة أيام، وأحجم عن هذا حين رأى الناس تحبسها حتى يعود الغائب ليأكل معهم، ونهى عن الشرب من أوعية النبيذ ثم أعاد الناس تشرب منها.. وكان النبى يظن أن وضع نبيذ التمر أو الزبيب فى الأوعية يساعد على تحول الأوعية إلى خمر مسكر، فأمر بعدم استخدامها وكسرها.. ولما علم أن الوعاء لا يتأثر بالسائل الموضوع فيه رفع عنه الحظر.
وأستطيع أن أقرر عن ثقة أن عصمة الأنبياء فيما يوحى إليهم به فقط، وما جاءوا بغيره فهو بشرى، ليس وحيا ولا تنزيلا كما يزعم البعض، متوافق مع ما يراه الناس ويتفق مع عصرهم وزمانهم وظروفهم، وليس من الضرورى أن يتوافق مع غيره من الأزمنة والأمكنة الأخرى.
ولو استجمعنا شجاعتنا وأخذناكم إلى بعض القرارات النبوية التى لو استمرت معنا، لكان لحركة التجارة والاقتصاد شأن آخر، فإليكم بعض الأمثلة، منها: نهى الرسول أن يبيع «حاضر لبادٍ»؛ أى أن يقابل التاجر المقيم بالمدينة أو الحضر «حاضر» الفلاح القروى أو البدوى «الباد» خارج المدينة ويأخذ بضاعته ومزروعاته ليبيعها عنه فى المدينة بسعر يزيد على ما يطلبه الفلاح أو البدوى، وهو قرار صائب فى حينه رأفة بالناس، وكذلك نهى عن بيوع الغرر، وهو بيع ما ليس عند البائع، فيسأل المشترى البائع عن شىء ليس عنده، فيبيعه ثم يذهب إلى السوق يبتاعه له، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تبع ما ليس عندك»، ويسرى هذا على الشقق السكنية فلا يجوز بيع شقة لم يستكمل بناؤها بعد.. ونهى عن بيع العربون.. وكلها أمور كانت مقبولة فى حينه، إلا أنها الآن تمثل عائقًا فى حركة الاقتصاد، فضلا عن التوسع المطلوب فى حركة البيع والشراء والتمويل، وكذلك التخصص، حتى يتفرغ الزارع لزراعته والصانع لصناعته، والوسيط بينهم وبين المشترى أصبح ضرورة اقتصادية على أى شكل من أشكال البيع والشراء فى حدود القانون.
و«النهى» غير «التحريم».. «النهى» فى حقيقة الأمر اجتهاد، راعى فيه الرسول مصالح الناس ومنافعهم فى حينه، وليس وحيا، وخاص بفترة زمنية محددة، وخصوصا ما يتصل بالسياسة والاقتصاد ومجالات الحياة، ولا يجوز اعتباره تشريعًا أبديًا. ولا يعقل أن ننهى أو نحرم أمرًا دنيويًا فيه منفعة، بدعوى أن الرسول نهى عنه لاختلاف الظروف والأحوال، فلا يعقل مثلا ألا يبيع الفلاح محصوله إلا إذا أثمر وأينع وكان جاهزا وحاضرا للبيع، فمن أين له من المال للإنفاق على الزراعة إلا بالاتفاق على البيع وقبض العربون وربما أكثر حسب الاتفاق؟.. وكيف يبيع المقاولون القرى والعمارات والأبنية دون الاتفاق وقبض جزء من الثمن حتى يستطيع تمويل مشروعاته، ويتزامن السداد مع مراحل الإنشاء، وإلا فمن أين لهؤلاء القدرة على إتمام الأعمال إلا القليل النادر منهم؟.
وتبقى كلمة مهمة دون مواربة: الاقتصاد والسياسة وأمور الناس لها قانونها الخاص وتشريعاتها الوضعية العلمية المستحدثة ليس غير.
«الدولة المدنية هى الحل»
نقلا عن المصرى اليوم