نيفين مسعد
توقّفت محركات الطائرة قبل أن تكتمل موسيقى رقصة زوربا اليوناني وكانت نغماتها قد أخذَت تتردّد في أذنّي بهدوءٍ تام.. تن ترن ترررن- مع إعلان المضيف عن قرب هبوط الطائرة بسلام في مطار أثينا الدولي. لا أحب الأشياء الناقصة منذ أن قالت لي أمي من زمااااان "اللي يعمل عمل وما يتّمه تموت أمه"، ومازلت ألتزم بهذا المثل لأنه من ريحتها حتى وإن توفاها الله من تسعة عشر عامًا. وهكذا فعلى الرغم من تشتُت الانتباه بفعل الحركة ودوشة الركاب استعدادًا للنزول- ظلّت الموسيقى تعزف جوّاني ولا تبالي بما يحدث من حولي.. تاراتتتا تاراتتتا، فقط تسارَعَت نغماتها مع تسارع حركة قدمّي أنطوني كوين المدرّبتين جيدًا جدًا حتى بدأت ألهث بالفعل. أنهى إلينا المضيف المعلومات المعتادة عن التوقيت ودرجة الحرارة خارج الطائرة، فانتقلتُ من زوربا اليوناني إلى الخواجة بيچو المصري وتخيّلته وهو يقول بصوته المميّز: الخمد لله. آه من اليونان وسحر الشرق في اليونان، لكزتني ذراع الراكبة في مقعد خلفي تحاول أن تتخطاني لتسبقني في النزول، لم أغضب ولا اكترثتُ أصلًا لقلة ذوقها فما جئت هنا إلا لأستمتع.
• • •
أن تمشي في شوارع أثينا بمطالعها ومنازلها في أجواء احتفالات الكريسماس فأنت تمشي في موكب طويل من البهجة، فاليونانيون شعب محّب للحياة إلى أقصى درجة.. منطلق.. خفيف الظل، والاحتفال بعيد الميلاد مناسبة ممتازة لتجلّي هذه الروح الفرفوشة. يُطلِق الناس في ساحة كوتزيا عشرات البالونات الممتلئة بغاز الهليوم والأمنيات الحلوة في العام الجديد فيضاف إلى النجوم المضيئة في السماء مزيد من النجوم، فروع اللمبات الصغيرة الملونة تمتد من عامود نور لآخر ومن شرفة بيت لأخرى وتصل الكل بالكل وكأن العاصمة تسكن في غرفة واحدة على رأي عادل إمام. أشجار أشجار أشجار في كل مكان، أشجار يكسر خضرتها الفاقعة النضرة اللون البرتقالي لثمار اليوسفي دانية القطوف في معظم الأحيان، لكن الأمر لا يمنع من ظهور لون الليمون الأصفر الزاهي بين ثنايا الأشجار. وفرة شديدة في تماثيل آلهة الجمال والحب والخصوبة والقوة والزمن والبحار، وتماثيل أفلاطون وأرسطو من فلاسفة العقد الاجتماعي ومن قبلهم سقراط الملقّب بالفيلسوف الأول. وهذه التماثيل لا توجد فقط في المتاحف والمعابد والميادين الرئيسية والشوارع الجانبية، لكنها موجودة حتى على أغلفة قطع الشيكولاتة والملبن والتيشرتات والصابون المصنوع من زيت الزيتون الكالاماتا ولعبة الشطرنج والورق ومستحضرات التجميل وكل شيء. إنك في معقل دولة لها تاريخ إمبراطوري تزهو بانتصاراتها في معاركه وآثاره العريقة لازالت باقية وإن تحوّل بعضها إلى أطلال، ومنها أتت الحكمة والمنطق وأهم النظريات الفلسفية القديمة، وهكذا تتمشّى نساء من كل الأعمار تحيط بشعورهن تيجان ذهبية على شكل أغصان الزيتون كتلك التيجان التي كانت تزيّن رءوس نساء الإغريق أيام زمان، وتتدلّى من جيوب الرجال سلاسل مفاتيح على شكل الخوذة الشهيرة للمحارب اليوناني القديم، فهنا توجد الحياة وهنا كانت توجد حروب.
• • •
أما أساطير اليونان فحدّث عنها ولا حرج، فإن أنت زرت اليونان فستسمع من أهلها عشرات الأساطير المسلية التي لا يصدقونها هم أنفسهم بالضرورة ومع ذلك فإنهم لا يتوقفون عن حكيها، ولا معنى للتشكيك فيها فالتسلية في حد ذاتها هدف مشروع. هناك أسطورة شائعة تخّص معبد أكروبوليس الشهير عن معركة دارت فيه بين الإلهين أثينا وبوسيدون فاز فيها الأول فكان أن أعطى اسمه للعاصمة اليونانية. وهناك أسطورة أخرى لا تقّل شيوعًا عن معبد أفيا Aphaia الموجود في إحدى أكبر جزر اليونان: جزيرة إيچينا، ويتردد أنه أقيم في مكان استقرّت به أفيا التي تُعرف بأنها آلهة الاختفاء. أما أسطورة كرونوس ابن الأرض والسماء فهي الأغرب على الإطلاق. فلقد كان الإله كرونوس يرفض أن يرث صولجانه أحد من أبنائه، لذلك قرّر أن يلتهمهم واحدًا واحدًا، إلى أن ضحكت عليه زوجته ذات مرّة وألقمته حجرًا بدلًا من طفلها الوليد زيوس فعاش هذا الأخير وأرغم والده على تقيّؤ كل إخوته جميعًا. هذه الأساطير العجيبة هي جزء من سحر الشرق الموجود في اليونان، وهي ترتبط بهذا الهوس والخوف من الحسد الذي يتجلّى في انتشار بلا حدود للعيون الزرقاء الموجودة في بلداننا العربية أيضًا، مع تنوّع في ألوان عيون الحسّاد اليونانيين فهناك عين صفراء وبرتقالية وبنفسجية وحتى سوداء.
• • •
في اليونان لا تشعر كمصري بالغربة أبدًا، ليس فقط لأن الحضارتين الفرعونية واليونانية من أكبر الحضارات القديمة وأكثرها عجائبية وإبداعًا. وليس فقط لأن ديميس روسوس وأندريا رايدر وقسطنطين كفافيس وغيرهم من كبار المطربين والموسيقيين والشعراء صنعوا ضفيرة رائعة من الفن المشترك بين البلدين. وليس فقط لأن بعض أشهى أطعمتنا من أصل يوناني كاللوكامتيس أو لقمة القاضي والبعض الآخر أخذه كلانا من المطبخ التركي كالشاورما والملبن والبقلاوة، أو لأن الأصل في أشجار الفستق التي تشتهر بها اليونان كان بذرة غرسها أحد السوريين القادمين إلى اليونان من مدينة حلب. أقول ليس فقط وليس فقط لأن ما بين الشعبين المصري واليوناني هو حصيلة ذلك كله مُجتمِعًا. حتى الجزر اليونانية التي يقال إنها تربو على الألف جزيرة- إن أنت زرت بعضها فلن تجد اختلافًا كبيرًا بينها وبين قرى الصيادين في مصر إلا في شئ واحد فقط هو اهتمام الدولة اليونانية بها وجعلها مزارًا سياحيًا من الطراز الأول، فهناك المقاهي المنتشرة على رصيف البحر في منتهى النظافة والبساطة في الوقت نفسه، ومحلات المصنوعات التقليدية اليونانية بضاعتها منتقاة بعناية وذوق كبيرين. عدا هذا فالأسماك وشباك الصيادين ومراكب الصيد والقطط السمان ورائحة البحر المتوسط ونسائمه واحدة.
• • •
عندما علم المغنّي الخمسيني الذي يغنّي في إحدى المقاهي التي تملأ ميدان موناستراكي وتتخلّل حواريه الضيَقة أننا أسرة مصرية، سألني إن كنت من مدينة الإسكندرية التي بناها الإسكندر الأكبر، فكذبت عليه كذبة بيضاء وأجبته بالإيجاب، فأنا كغيري من المصريين نعشق الإسكندرية، ولا بأس في كل الأحوال من إرضاء غروره. شعر المغني بالرضا من إجابتي وانطلق يغني بخفة دم لا مزيد عليها: يا مصطفى يا مصطفى أنا باخبك يا مصطفى. ثم توقّف بعد المقطع الأول وأشار إليّ لأكمل الأغنية لأنه لا يحفظها فلم أتردّد في مجاراته بصوتٍ غير فنّي بالمرة: سبع سنين في العطارين وانت خبيبي يا مصطفى.
نقلا عن الشروق