كتب - محرر الاقباط متحدون
يقول الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس، في رسالة بمناسبة عيد الظهور الإلهي، ان هذا العيد يشير إلى معمودية المسيح في نهر الأردن على يد القديس يوحنا السابق، المسمّى المعمدان. هذا جرى عند بلوغ المسيح سنّ الثلاثين، قبل أن بدأ منهجياً عمله التعليمي وقبل آلامه اللاحقة، لخلاص الجنس البشري. إن اختيار سنّ الثلاثين للبدء بالنشاط المعروف في العالم يرتبط بأن التكوّن البيولوجي للكائن البشري يبلغ كماله عند ذلك الحين، إضافة إلى أن هذا الأمر يجعله أكثر قبولاً عند إسرائيليي ذلك الزمن. يصف الإنجيليون هذا الحدث (متى 13:3-17، مرقس 9:1-11، لوقا 21:3-22، يوحنا 32:1-34). لن ندخل في هذه التفاصيل بل سوف نركّز على بعض الحقائق الأساسية لاهوتياً وخريستولوجياً.
يُسَمّى حدث معمودية المسيح على يد يوحنا السابق في نهر الأردن الظهور الإلهي (Theophany - Epiphany). في كنيسة العصور الأولى، كان عيدا الميلاد والظهور يُعيَّدان في اليوم نفسه، أي السادس من كانون الثاني. في القرن الرابع، انفصل العيدان ونُقل عيد الميلاد إلى الخامس والعشرين من كانون الأول، أي أنّ اليوم الذي كان يعيّد فيه الوثنيون لإله الشمس صار يوم التعييد لشمس البِر. على المنوال نفسه، يصف القديس غريغوريوس اللاهوتي هذا العيد بأنه، بسبب المعمودية وإشعال النار، عيد الأنوار واستنارة الموعوظين.
تأتي كلمة ظهور (Theophany) من المقطع الرسولي "اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ." (1 تيموثاوس 16:3)، وهي مرتبطة بالأغلب بميلاد المسيح. وتأتي كلمة ظهور ((Epiphany) من المقطع الرسولي: "لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ، لِجَمِيعِ النَّاسِ" (تيطس 11:2)، وهي ترتبط بالدرجة الأولى بمعمودية المسيح إذ عندها أدرك البشر نعمة الميلاد.
في مجمل الأحوال، الحقيقة هي أنّه في يوم معمودية المسيح، مع ظهور الثالوث القدوس واعتراف السابق الشريف، صار عندنا اعتراف رسمي بأن ابن الله وكلمته هو "أحد الثالوث" وقد صار إنساناً ليخلّص الجنس البشري من الخطيئة والشيطان والموت.
بما أن معمودية يوحنا قادت البشر إلى تحسس خطاياهم وهيأت الشعب لتقبّل معمودية المسيح الأكثر كمالاً، وبما أن المسيح كان إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً ولم يخطأ أبداً، لماذا اعتمد إذن؟ الجواب على هذا السؤال يكشف لنا حقائق عظيمة. يقول القديس يوحنا الدمشقي أن المسيح لم يعتمد لأنّه كان بحاجة إلى التطهر "بل لينسب لنفسه طهارتنا". كما أن المسيح تألّم وصُلب من أجل الجنس البشري وأحسّ بالألم وبالأسى العظيمين، كذلك هو نَسَب لنفسه طهارتنا. الكثير من الأمور جرت على هذا المنوال. إذاً، بحسب الدمشقي، اعتمد المسيح لكي يسحق رؤوس التنانين التي في الماء، إذ كان الاعتقاد السائد هو بأن الشياطين تعيش في الماء؛ لكي يغسل الخطيئة ويدفن آدم القديم في الماء؛ لكي يبارك المعمِّد، فالسابق لم يبارك المسيح بل المسيح باركه عندما وضع الأخير يده على رأس المسيح؛ لكي يحفظ الناموس، لأنه هو نفسه وضعه ويجب ألاّ يظهر مخالفاً له؛ لكي يكشف سر الثالوث، إذ عند تلك اللحظة تمّ ظهور للثالوث القدوس؛ لكي يصير مثالاً لمعموديتنا التي هي معمودية كاملة تتمّ بالماء والروح القدس.
أبعد من هذه الأمور، باعتماده في نهر الأردن، بارك المسيح المياه أيضاً. لهذا نحن، إلى اليوم، نقيم خدمة تقديس المياه وخلالها نستدعي الروح القدس ليبارك الماء. وهكذا بعد مباركتها لا تعود مجرد مياه من السقوط بل تصير ماء للتجديد لأنها متحدة بنعمة الله غير المخلوقة.
خلال اعتماد المسيح ظهر الثالوث القدوس. أحد أهداف التجسد الإلهي، كما معمودية المسيح، كان إظهار الإله الثالوثي، إذ بالرغم من أن لله جوهر واحد وطبيعة واحدة، إلا أنه ثلاثة أشخاص، الآب والابن والروح القدس. إذاً، صوت الآب سُمع شاهداً ومؤكّداً أن الذي في الأردن في تلك اللحظة هو ابنه، بينما الروح القدس يظهر "بهيئة حمامة".
يشير ظهور الإله الثالوثي خلال إصلاح الإنسان إلى حقيقة لاهوتية أخرى، وهي أن الإنسان هو العضو الأرضي والعابد للثالوث القدوس، وأيضاً إلى أنه المخلوق الوحيد المصنوع على صورة الإله الثالوثي. بحسب ما يشرح القديس غريغوريوس بالاماس، لا تملك الحيوانات نوساً وعقلاً، بل فقط روحاً حية لا تأتي من ذاتها. هذا يعني أنه عندما تموت هذه الحيوانات تخسر الروح معها. فهي لا تبقى كونها بدون جوهر وليس عندها إلا القوة. للملائكة ورؤساء الملائكة أيضاً نوس وعقل ولكن لا روح تحيي الجسد، وبالتالي الإنسان وحده صورة الإله المثلث الأقانيم. إذاً، لهذا السبب ابن الله وكلمته، لكي يخلص العالم ويغيّره، صار إنساناً وليس ملاكاً، لأن الإنسان هو ذروة الخليقة. وهكذا من خلال الإنسان المتقدّس يتمّ تحوّل الخليقة وتغيرها.
صوت الآب شهادة يحمل ويقدّم التأكيد على أنّه ابنه الحبيب. بحسب الإنجيلي متى، تأتي العبارة بالغائب "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (متى 17:3). بحسب الإنجيلي مرقس تأتي بالمخاطَب "أنت ابني الحبيب الذي به سررت". لا أهمية لهذا. ما نراه هنا هو أن المتكلّم، أي الآب، يشهد لكلمته، ابنه الحبيب. كلمة الله وُلد من الآب قبل كل الدهور، وهذه الولادة هي الصفة الأقنومية للشخص الثاني في الثالوث القدوس.
إن شهادة الآب بأن المعتمِد ليس إنساناً عادياً بل هو ابنه الوحيد تشير إلى ألوهية الكلمة ومساواته بالجوهر لأبيه. بحسب اللاهوت الأرثوذكسي، صوت الآب هو معاينة لله وإعلان وليس أمراً يُستَوعَب بالحواس. بالتأكيد، يشارك الجسد في معاينة لله لكن الحواس تتحوّل لكي تتمكن من رؤية مجد الله. حقيقة أن صوت الآب هو إعلان ورؤيا لله يمكن أن نراها من شهادة الآب المماثلة على جبل ثابور عندما سقط التلاميذ على الأرض لأنهم عجزوا عن احتمال بهاء الرؤيا.
الابن الذي شهد له الآب يظهر على أنه "شعاع مجد الآب" لأن جوهر وقوة الإله الثالوثي مشتركة بين الثلاثة. في الرسالة إلى العبرانيين يستعمل الرسول بولس جملة للإشارة إلى ألوهية الكلمة: "الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عبرانيين 3:1). كلمة "بهاء" تشير إلى اللمعان، الإشعاع الذي يأتي من جسم مشعّ. كون الجسد مخلوقاً فالبهاء مخلوق، وفي حالة المجد غير المخلوق يكون بهاؤه غير مخلوق. على الأكيد، عندما نقول أن الابن هو شعاع الآب (مجده) لا يعني أنه قوته لأن الكلمة هو أقنوم خاص، لكنه يشارك الآب في الألوهية وبالتالي يشتركان بالمجد والقوة، وهذا ما يصحّ أيضاً على الروح القدس. الأقانيم ثلاثة مشتركون بالطبيعة والجوهر والقوة والمجد.
الروح القدس شارك أيضاً في ظهور الإله الثالوثي عند نهر الأردن. الروح القدس هو الأقنوم الثالث في الثالوث القدوس، وهو ليس من مرتبة أدنى من الإثنين الآخرين كونه يشترك معهما في الجوهر. يوحنا المعمدان "رَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ" (متى 16:3). في لحظة نزول الروح القدس ومجيئه إلى المسيح سُمعَت شهادة الآب. ظهور الروح القدس "مثل حمامة" عند اعتماد المسيح، يذكّرنا ظهور الروح القدس "كمثل حمامة" بفلك نوح. حين ظهرت اليابسة عادت الحمامة التي أرسلها نوح من الفلك ومعها غصن زيتون في فيها مخبرة عن انتهاء الفيضان. بذلك يشير إلى الخلاص من فيضان الخطيئة.
يشير التزامن بين الإشارتين، الحمامة وصوت الآب، إلى الاشتراك بالجوهر بين أقانيم الثالوث القدوس. كما أن علامة الروح القدس ومعها صوت الآب يشيران إلى المسيح ابن الله المرسَل لخلاص الإنسان (القديس ثيوفيلاكتوس).
يقول الإنجيلي متى: "َإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ" (متى 16:3)، والإنجيلي مرقس: "رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ" (مرقس 10:1). إذاً، السماوات انفتحت وانشقّت. ليس استعمال هذين الفعلين مصادفة بل هو للتعبير عن حقيقتين مختلفتين تتعلّقان بتجسّد ابن الله وبلطف الثالوث نحو الجنس البشري، بحسب ما نرى في تفسير القديس غريغوريوس بالاماس.
انفتاح السماوات يعني أنّها قد أُغلقَت بعصيان آدم وخسر الإنسان شركته مع الله. الآن بطاعة المسيح الكاملة، وهو آدم الجديد، تنفتح السماوات مجدداً ويصير الإنسان قادراً على بلوغ الشركة مع الله. إذاً المسيح هو المؤسس الجديد للجنس البشري. نحن ننحدر من آدم بالجسد لكن روحياً نحن ننحدر من المسيح، آدم الجديد.
إن اعتمد المسيح ليحفظ الناموس ولينزِل نعمته على المياه، من أجل الخليقة بأسرها ومن أجل الإنسان. وبالتالي، هو يعطي لكلٍ منا إمكانية بلوغ نعمة التبنّي، أي الظهور في حياتنا الشخصية. هذا الظهور الإلهي يشكّل معرفة الله، وكون هذه المعرفة حقيقة وجودية فهي تجلب الخلاص أيضاً.
المسيح اعتمد ليحفظ الناموس ولينزِل نعمته على المياه، من أجل الخليقة بأسرها ومن أجل الإنسان. وبالتالي، هو يعطي لكلٍ منا إمكانية بلوغ نعمة التبنّي، أي الظهور في حياتنا الشخصية. هذا الظهور الإلهي يشكّل معرفة الله، وكون هذه المعرفة حقيقة وجودية فهي تجلب الخلاص أيضاً.