د. نيفين مسعد
غدًا تحتفل الكنيسة الأرثوذوكسية بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، كل عام والمصريون جميعًا بخير.وعندما نستعرض مواقف مسيحيى مصر وكنيستهم الأم على مدار التاريخ نجد أنهم كانوا دائمًا مثالًا خالصًا للوطنية الصافية، فلقد استعصى المسيحيون على كل محاولات استمالتهم من جانب مُختَلَف القوى الخارجية أكانت فرنسا أم بريطانيا، بدعوى الاشتراك فى الدين، وانحازوا دائمًا إلى جانب الدولة المصرية ووقفوا معها فى مواجهة كل دعاوى الحماية الأجنبية، فلقد كانوا على يقين تام من أن التمسّك بمواطنتهم والدفاع عنها هو السبيل الوحيد لحصولهم على حقهم فى المساواة الكاملة، أما المستعمر الأجنبى الذى يطبّق مبدأ فرق تسّد فلا يمكن أن يكون مصدرًا للحماية.وساعد على إحباط محاولات التغلغل الخارجى باستغلال التعددية الدينية الموجودة فى مصر، أن مسيحيى مصر مختلطون بمسلميها اختلاطًا تامًا، فلا ملامح خاصة أو لهجة معينة تميّزهم وتسهّل فرزهم، ولا مناطق جغرافية يقطنونها على سبيل الحصر، ولا مهن مغلقة عليهم دون سواهم، ومثل هذا الاختلاط التام دفع اللورد كرومر قبل عقود طويلة إلى قول عبارته الشهيرة عن أن الفرق بين المسلم والمسيحى هو أن الأول يذهب إلى المسجد بينما يذهب الثانى إلى الكنيسة.
فى كل المحطات التاريخية المهمة كان لمسيحيى مصر دورُ وحضور وازن ومؤثّر، من أول ثورة عرابى عام ١٨79، حتى ثورة يونيو ٢٠١٣، مرورًا بثورتّى ١٩١٩ و٢٠١١. ومسيحيو مصر هم الشركاء فى الحرب ورفقاء السلاح فى تحرير سيناء، ومن العميد باقى زكى يوسف انبثقَت الفكرة العبقرية الخاصة باختراق الساتر الترابى الذى أفضى لتحطيم خط بارليف باستخدام خراطيم المياه، وفى الحرب نفسها انعقدَت قيادة الجيش الثانى الميدانى للواء فؤاد عزيز غالى، فكان نصر أكتوبر صنيعة هذه اللُحمة الوطنية المصرية الرائعة.كما أن مسيحيى مصر كانوا دائمًا هم حائط الصدّ فى مواجهة الهجمات الإرهابية الإجرامية التى استهدَفَت مصر فى مراحل مختلفة من تاريخها، وعندما بلغَت تلك الهجمات ذروتها عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان واشتعلت نيران الكراهية فى العديد من كنائس مصرـــ خرج البابا تواضروس الثانى ليؤكّد أن الوطن يعلو على الكنيسة وأن وطنًا بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن، فأى انتماء وطنى
عميق ينطوى عليه هذا الموقف الحكيم؟. ولعله ليس من قبيل المصادفة أن أهم تأسيس نظرى لمبدأ المواطنة ارتبط بإسهامات المستشار الدكتور وليم سليمان قلادة الذى يُعّد بحق من الروّاد الأوّلين لهذه المدرسة، وهى مدرسة تتلمّذ فيها وتخرّج منها كبار المفكرين المصريين المعاصرين أمثال الصديق العزيز سمير مرقص، فإن أنت بحثتَ عن تعريف المواطنة وركائزها وتجلياتها فلابد أن يقودك البحث إلى كتابات قلادة التى تعكس إيمانه العميق بالفكرة.
وإذا أردنا تسليط الضوء على المشهد المصرى الحالى وموقع المسيحيين منه، سنجد أن ثورة ٢٥ يناير قد أنهت ما كان يوصف باعتزال مسيحيى مصر السياسة، وهو اعتزال يمكن تفسيره بمجموعة من العوامل المتشابكة، منها تراجع دور حزب الوفد الذى كان يُنظَر له باعتباره حزب المواطنة المصرية فإذا به ينشغل بنفسه وخلافاته الداخلية عن قضايا المجتمع، وتنامى نزعات التشدّد الفكرى بفعل المزاج العام الذى ساد فى المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل وقاد لظهور جماعات التطرّف من أول طالبان والقاعدة حتى تنظيم داعش، فإذا بنا نسمع بفتاوى دينية ما أنزل الله بها من سلطان تقيم الحواجز المفتعلة بين أبناء الوطن الواحد، ويجب الاعتراف أيضًا بأن السياسات الحكومية لم تبد حرصًا كبيرًا على معالجة معوّقات المشاركة السياسية لمسيحيى مصر.
لكن هذا الوضع انتهى منذ عام ٢٠١١، وكان السياسى المخضرم چورچ إسحق هو أحد أيقونات ثورة يناير جنبًا إلى جنب مع الشيخ مظهر شاهين خطيب مسجد عمر مكرم، حتى إذا رحل إسحق إلى بارئه كان تشييعه جامعًا لكل أطياف المجتمع والسياسة فى مصر.
وبنفس القوة شارك مسيحيو مصر بكثافة فى مختلف الاستحقاقات الانتخابية على مدار الثلاثة عشر عامًا الأخيرة بما فى ذلك الانتخابات الرئاسية الأخيرة التى كان حضورهم فيها لافتًا.كما أنهم تصدّوا مع جموع المصريين لحكم الإخوان الذى اتسّم بالطائفية، وذلك بأن اصطفى الجماعة واختصّها ليس فقط بمقاليد السلطة السياسية، لكن أيضًا بصفة التحلّى بالإسلام الحق «الإخوان المسلمون». وبالتوازى مع ذلك احتلّت قضية المشاركة السياسية للمسيحيين مكانة مركزية فى اهتمامات الدولة المصرية، وتجلّى ذلك كأوضح ما يكون فى دستور عام ٢٠١٤ ثم فى تعديلاته عام ٢٠١٩ على مستوى التمثيل البرلمانى، كما نعتّز اعتزازًا كبيرا بتولّى المستشار بولس فهمى إسكندر أرفع منصب قضائى فى مصر وهو رئاسة المحكمة الدستورية العليا.
إن هذه التعددية الدينية التى حبا الله سبحانه وتعالى مصر بها بوجود المسيحية جنبًا إلى جنب مع الإسلام، وبالتنوع فى داخل الديانة المسيحية ما بين الأرثوذوكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، هى إحدى أهم مصادر قوتنا الناعمة، فالحضارة المصرية الغنيّة بعلومها وفنونها وثقافتها وإبداعاتها إنما هى نتاج التعددية والتنوّع والانفتاح على الاختلاف. وعندما ننظر حولنا إلى الصراعات الطائفية المشتعلة فى العديد من دول المنطقة وما يصاحبها من دعاوى التقسيم والتجزئة، فإن هذا يدعونا أكثر من أى وقت مضى للتأكيد على مبدأ المواطنة، وللعمل على مواجهة الأفكار الدينية الشائهة بمزيد من التنوير والتوعية بحقيقة أن الوطن يتسّع لكل أبنائه بدون استثناء. حفظ الله مصر بمسلميها ومسيحييها، وجعل من النسمات التى تهّب علينا فى ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام ـــ نسمات أمن وطمأنينة وسلام.
نقلا عن الاهرام