أحمد الجمال
أواصل الكتابة عما أسميه الفريضة المجتمعية الغائبة، وهى حتمية سعى الكل المصرى لإنهاء أنماط تفكير ومسلكيات تجسد الفوضى واللامبالاة والازدواجية المعيبة، وتهدد كل ما يعد إنجازًا متقدمًا على كل الأصعدة، وهى أنماط ومسلكيات تسود فى النسيج المجتمعى، لا فرق فى ذلك بين من يرفلون فى الترف، ابتداء من السكنى فى المعازل الراقية وفوق الراقية، وليس انتهاء بانتظام معاونيهم «خدمهم» فى طوابير أغلى محال البقالة الكبرى «سوبر ماركت» للحصول على السلع التى لا تدخل سوى بيوتهم، وبين من يعيشون فى بقية فئات السلم الاجتماعى الوسطى بدرجاتها- إن كان قد بقى منها شىء- وما دون الوسطى، والفقراء عند خط الفقر ثم من هم أدنى منه.
وفيما يسعى بعض مؤسسات الدولة إلى التوغل فى عصر الرقمنة، ومواكبة التطور العالمى المتقدم فى أكثر من مجال، وأيضًا فيما يحاول بعض المثقفين والإعلاميين هدم كل ما هو من قبيل ثوابت الوجدان الحضارى والثقافى المصرى كمدخل حتمى للعصرنة والديمقراطية؛ فإن أنماط التفكير والمسلكيات السلبية، التى أشرت إليها، تنتشر وتتوسع مثل أى وباء يفرز تحوراته لإنهاء أو الحد من فاعلية ما يخترع لمقاومته، وهى الأكثر استحقاقًا للتصدى.
وفى هذا المقام، وبعد أن رصدت فى مقال الأسبوع الفائت الكثير من السلبيات المجتمعية، فإننى أضيف فى هذه السطور المزيد منها، وأبدأ من المنطقة التى أعيش فيها، حيث المعازل «الكومباوندات» تتجاور وتتكاثر، والشوارع واسعة مزدوجة مرصوفة ولها أرصفة وخطوط مرورية متقطعة ومتصلة وفتحات للالتفاف إلى الخلف، وكناسون معظمهم نساء محجبات ومنتقبات، ومعهم صغار فى المرحلة العمرية فوق المراهقة وتحت الشباب، ومعظم السيارات ماركات معروفة تختلط فيها البورش والمرسيدس والجيب والجاجوار والأودى، وغيرها من اليابانى والكورى والصينى الفاخر.
وما إلى ذلك، يعنى ممكن تجد بسهولة من يمرق أو تمرق بجوارك أو تصطف فى المواقف بسيارة قد يتجاوز ثمنها عشرة ملايين جنيه، ومع ذلك كله يتفشى السير فى عكس الاتجاه.. وأكرر يتفشى؛ لأن راكب العدة ملايين يستنكف ويكسل عن الخروج من معزله ليتجه فى الاتجاه السليم لأقرب فتحة دوران ليمضى فى طريقه، ويفضل المخالفة الفجة الجسيمة، وإذا صادفه كائن عجيب مثلى يصر إذا صادف من جاء عكس الاتجاه على أن يسير إلى ما قبيل الاصطدام المباشر، مع صياح مصحوب بحركة يدين تقول: لا، كان رد فعله هو الانحراف الحاد القوى بسيارته مع حركة يد يقول: اتكل على الله خليك فى حالك، وكثيرًا ما يتوقف ويخرج دماغه ويصيح: «فيه إيه أنت مالك.. هو شارع أهلك؟».
وهنا أوجه نداء لوزارة الداخلية بأن تلزم كل «الكومباوندات» المعازل بالمساهمة فى تركيب الكاميرات التى ترصد المخالفات من هذا النوع عند مخارجها ومداخلها وتقاطعات الشوارع المحيطة بها.. وأؤكد أن ملايين الجنيهات ستصب فى هذا البند.. وإذا كع المخالف قيمة مخالفة تكون فادحة، فإن الاستقامة قد تكون قريبة.
ثم إن سلاسل المقاهى «الكافيهات» والمطاعم والسوبر ماركت، وغيرها المنتشرة مثلًا فى شارعى التسعين بالتجمع وأماكن كثيرة مماثلة ليس لديها «جراجات»، وسرعان ما يأتى أشخاص «منادين» يقفون أمامها فى وسط الطريق يشيرون بأياديهم للسيارات بحركة تفيد السؤال: «عاوز تركن؟».. وتبدأ ملحمة الركن، وتتكدس السيارات فى الشوارع من أمام تلك الأماكن لينسد الطريق وتتكاثر الحوادث والمشاجرات لكثرة حالات من يركن ويحول دون تحريك سيارات أخرى، وكثيرًا ما تكون سيارة شرطة ومعها ضباط وجنود بالقرب من تجمع تلك الدكاكين، ويبدو أن مهمة هؤلاء الأفاضل لا تدخل فيها مخالفات من هذا النوع.
ثم أزيد الجرعة بالديناصورات التى هى تريللات ثقيلة تعتبر أن الحكومة لا تعمل ليلًا، فتراها تعربد فى محور جيهان ومحور المشير وما شابههما، وفى الطرق السريعة، وهى عربدة مرعبة.. نقل ثقيل بحمولات قد تصل لأقصى وزن، وهو فيما أعرف خمسة وأربعون طنا، عدا وزن وقوة الشاحنة التى تسير بسرعة بدون لوحات أرقام أو بلوحات لا يمكن للعين أن تلتقطها.
ويقودها شباب حديث السن، يسهل أن يمتلكه الغرور والإحساس بأنه بشاحنته أكبر وأقوى من أى «بيه» أو «باشا» راكب مرسيدس.. وتتجلى عُقدة التعويض النفسى بأعمق دلالاتها، وقد روى لى صديقى البروفيسور الدكتور شارل مجلى عن التريللا التى قطعت الطريق المتجه للسخنة لتنحرف من أقصى اليمين بعرض الطريق إلى الجزيرة الوسطى لتنسف الحواجز وتستدير وكأنها «توكتوك» إلى الاتجاه الآخر لترتفع أصوات الفرامل من عشرات السيارات ويسود الرعب!.
والسؤال عندئذ وحينئذ: ماذا يفعل المواطنون فى مثل تلك الحالات وغيرها مما يماثلها؟.. فإنهم لو نزلوا من سياراتهم وأوقفوا ذلك المتعربد وأصروا على حجز أوراقه لحين حضور الشرطة، وقعوا فى جريمة.. ولو تركوه ولم يشاهدوا الحكومة فى المكان، تكرس لديهم أن «البلد سايبة» ولا أمل فى أى تطور، وبعضهم يعقد من فوره المقارنة مع دول ينتشر فيها شرطيون من راكبى الدراجات النارية ويخرجون من تحت الأرض ليتصدوا لأى مخالفة.
ولو استطردت لملأت صفحات جريدة بأكملها.
نقلا عن المصرى اليوم