سمير مرقص
(1) «تصدع الحقيقة»
فى إحدى لحظات المراجعات الذاتية الكبرى، توقف العقل الإنسانى أمام ظاهرة غاية فى السوء يتعرض لها المجتمع الإنسانى ألا وهى: ظاهرة تمرير أى فكرة دون التأكد من حقيقتها، واعتبار تلك الفكرة صحيحة وحقيقية مادامت شاعت وانتشرت وتناقلتها الجماهير. ومع التدفق المعلوماتى المطرد والمذهل، تشابكت الحقيقة والكذب للحد الذى يصعب فيه فك التشابك بينهما، ومن ثم إعادة الاعتبار للحقيقة.. إنها الظاهرة التى استوقفت الكاتب الأمريكى «رالف كييس»، (79 عاما)، وألف مؤلفًا بعنوان: «عصر ما بعد الحقيقة: اللا أمانة.. والخداع فى الحياة المعاصرة- 2004»، The Post - Truth Era: Dishonesty & Deception in Contemporary Life؛ إضافة إلى أن صك مصطلح «ما بعد الحقيقة» يعود إلى الكاتب المذكور (وكنا أشرنا إلى ذلك فى مقال لنا عام 2017).. وفى سنة 2018، وبعد ما يقرب من مرور سنة على حكم الرئيس ترامب (2017 ـ 2020)، لاحظ المراقبون كيف أن الخطاب الرئاسى السياسى بات يتسم بالأضاليل والابتعاد عن كشف الحقائق ما جعل: «الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال فى الحياة العامة الأمريكية ضبابيا»؛ وذلك كما ورد فى كتاب مهم من إصدار مؤسسة «راند» الأمريكية سنة 2018 عنوانه: «تصدع الحقيقة Truth decay»؛ عنى بالبحث حول تضاؤل دور الحقائق والتحليل فى الحياة العامة، وتغليب الرأى والتجربة الشخصية على حساب الحقيقة.
(2) «التواطؤ والخداع»
خلص الكتاب إلى أن هناك ملاحظات كثيرة تفسر ظاهرة «تصدع الحقيقة»، من أبرزها ما يلى: أولًا: الاستقطاب فى السياسات والمجتمع والاقتصاد؛ إذ يسهم انعزال المواطنين فى كتل تعتمد المصالح الخاصة الضيقة على حساب المصلحة العامة فى تطوير مجتمعات منعزلة، تكون لكل منها سردياته ورؤاه التى يعتقد فيها، ليس لأنها صحيحة، وإنما لأنها تحقق مصالحه الآنية. ثانيًا: تزايد «تستيف» الحقائق والوقائع من قبل البنى السلطوية المختلفة بما يوحى بأن الأمور تسير فى الاتجاه الصحيح.
وفى هذا المقام، تشير دراسة عنوانها: «ترامب وعالم ما بعد الحقيقة» كيف أن تمييز الحقيقة من الزيف يستعصى مع وجود مؤيدين لحقيقة ما (والتى فى الأصل قد تكون كذبة)، ولكن مع عدم الحسم تصير حقيقة؛ لأن هناك استفادةً ما من شيوعها.. كذلك وجود مؤيدين للحقيقة المضادة. ويتفاقم الأمر مع تنامى تلاعب النخبة السياسية والإعلامية بعقول ومشاعر المواطنين. وما يفاقم من الأم هو سطوة نخبة ما بعد الحقيقة على كثيرٍ من مقاليد الأمور فى العديد من المجالات عبر: التضليل، والأخبار الزائفة، والدعاية التى تروج للأكاذيب، والمعلومات الخاطئة، والإنكار للوقائع والحقائق.. إلخ.
(3) «الحقيقة والزيف (ما بعد الحقيقة) فلسفيًا»
من أهم الشخصيات التى كرست وقتا من أجل تأمل تنامى ظاهرة «ما بعد الحقيقة» فى العقد الأخير هو الفيلسوف الأمريكى المعاصر «لى ما كينتاير»، المحاضر فى مركز فلسفة وتاريخ العلم بجامعة بوسطن الأمريكية. فلقد أنجز ثلاثة كتب معتبرة حول الحقيقة، صدرت بالترتيب التالى: أولا: «احترام الحقيقة: الجهل المتصلب فى زمن الانترنت ـ 2015». ثانيا: «بعد الحقيقة ـ 2018» وترجم إلى العربية فى 2022. ثالثا: «التضليل: كيف نحارب من أجل الحقيقة وحماية الديمقراطية ـ 2023».
بدايةً، يؤصل للمفهوم بأنه كان موجودا عبر التاريخ مُلازمًا لأزمنة اللاعقلانية التى تسقط أهمية التفكير العلمى فى حياة البشر. أما اليوم، وبالرغم من أن اللحظة التاريخية الراهنة تتسم بتوافر المعلومات وإمكانية بلوغها عبر محركات البحث الرقمية، إلا أن كثيرين يتمسكون عن جهل بما يقدم لهم من أفكار وآراء ومعلومات خاطئة، وذلك بسبب: أولا: التدفق المعلوماتى والمعرفى المهول عبر وسائل الاتصال الرقمى التى لا تتيح التوقف عند مدى صحة ما يتم تداوله. ثانيا: تعظيم التضليل السياسى للتغطية على الإخفاقات الاقتصادية/ السياسية وعدم الوفاء بالوعود الانتخابية. ثالثا: تراجع قدرة النظام التعليمى، التى تُمكّن من التفكير السليم وإعمال العقل وتبنى القيم العلمية المستجدة ومن ثم تتيح المجال لمواكبة الثورات: المعلوماتية، والرقمية، والتكنولوجية. رابعا: التحيزات المعرفية التى تحول دون تقبل الحقيقة المجردة بل تتعامى عنها؛ لأنها تتعارض مع ما يعتنقه المرء/ الجماعة/ المؤسسة، كذلك مصالح كل منها.. ويساهم كل ما سبق، على حدة أو مجتمعا؛ على إحداث أضرار جسيمة فى حياة المجتمعات، منها: التغييب العمدى للشفافية، والحرف المخطط للمواطنين عن الحقيقة.
(4) «ضرورة احترام الحقيقة»
يدعو «ماكنتاير» إلى ضرورة احترام الحقيقة Respecting Truth كقاعدة انطلاق إلى عالم أكثر عقلانية، وذلك من خلال إعلاء شأن التفكير العلمى وقيمة العلم، والحرص على وضع سياسات عامة ترقى بالتفكير العلمى والثقافة العلمية، ما يمكن من إدراك الحقائق فى ظل الزيف.. كذلك تطور العلوم الاجتماعية التى تحلل وتفسر الظواهر وتستخلص الحقائق.. إنها عملية ثورية بكل المعايير فى زمن الخداع العالمى، كما يقول «جورج أورويل».
نقلا عن المصرى اليوم