القمص يوحنا نصيف

 لذلك يسعدني إعادة نشر هذا المقال، لتوضيح كيف ترتبط الأحداث ببعضها في تناسق عجيب، بحسب ما جاء في نصوص الإنجيل، مع الحقائق التاريخية المثبتة علميا، بعيدا عن أي افتراضات غير منطقية أو قصص الفولكلور الشعبي.
 حفلت الفترة الأولى لحياة السيّد المسيح على الأرض، بداية من ميلاده في بيت لحم حتّى سُكناه في الناصرة، بمجموعة متتالية من الأحداث.. أحاول في هذا المقال ترتيبها بحسب توقيت حدوثها ومكانها في عشرِ محطّات، بحسب نصوص الإنجيل (لوقا2، ومتّى2)، وهي أهمّ مرجع لنا، وبالاستعانة أيضًا ببعض الأحداث المُثبَتَة في التاريخ:
١- ميلاد السيّد المسيح ليلاً في المذود في قرية بيت لحم.
 ٢- زيارة الرعاة للرب يسوع ليلاً في المذود، بُناءً على ظهور الملائكة لهم في نفس ليلة الميلاد.
٣- ختان السيّد المسيح بعد ثمانية أيّام من ميلاده، وهذا حدث غالبًا في أحد البيوت التي انتقلوا إليها بقرية بيت لحم. فبعد أن سمع الناس كلام الرعاة العجيب عن المولود المسيح المُخلّص وظهور الملائكة، قامت إحدى الأُسَر في بيت لحم باستضافة العائلة المقدّسة.. حيث أنّ المذود أيضًا لم يكُن مكانًا مهيّأً بالمرّة لإقامة أي أسرة أكثر من يومٍ أو اثنين..!
   ٤- دخول السيّد المسيح الهيكل بأورشليم بعد أربعين يومًا من ميلاده. ونلاحظ هنا أنّ العائلة المقدّسة لم تعُد سريعًا إلى الناصرة حيث مكان إقامة وعمل القديس يوسف النجّار لأنّ المسافة كبيرة بينها وبين بيت لحم (حوالي120 ميل - 192 كم)، فبدلاً من الذهاب للناصِرة ثمّ العودة في وقت قصير مرّة ثانية للهيكل بأورشليم، فَضَّلوا الانتظار في ضيافة الأُسرة المباركة التي كانوا يقيمون لديها في بيت لحم حتّى يتمّ طَقس التطهير في أورشليم القريبة من بيت لحم (حوالي 6 أميال - 9 كم) وبعد ذلك يعودون نهائيًّا للناصرة.
 ٥- حضور المجوس لزيارة الرب يسوع والسجود له في بيت لحم، بعد أن أرشدهم النجم إلى مكان البيت الذي كان الطفل يسوع يقيم فيه. ويبدو أنّ العائلة المقدّسة بعد انتهائها من إتمام طقوس التطهير في الهيكل بأورشليم، عادت لتجمع متعلّقاتها التي تركتها في بيت لحم، وتنتظر مرور يوم السبت، ثمّ تسافر إلى الناصرة.. وهنا كانت زيارة المجوس لهم في هذا التوقيت، أي مباشرةً بعد أربعين يومًا من ميلاد السيّد المسيح.
 ٦- الذهاب إلى أرض مصر في نفس ليلة زيارة المجوس، بحسب أمر الملاك للقدّيس يوسف.
٧- قتل أطفال بيت لحم الذكور من ابن سنتين فما دون بواسطة هيرودس الملك. وعددهم كان أقلّ من مائة طفل، إذ أنّ عدد سكّان قرية بيت لحم في ذلك الزمان لم يكُن يتجاوز عشرة آلاف نسمة على أقصى تقدير.
 ٨- موت هيرودس الملك في فصل الربيع بعد أسابيع قليلة من قتله للأطفال.. وهذا معروف ومُسجَّل في كُتُب التاريخ.
   ٩- العودة من أرض مصر بحسب أمر الملاك للقديس يوسف بعد موت هيرودس. وبهذا تكون العائلة المقدّسة قد قَضَتْ في مصر أيّامًا ليست بالكثيرة، ولكنّها كانت كافية لمباركة ربوع أرض مصر الطيّبة، وتهيئتها لتسكُن فيها خميرة الإيمان والقداسة والبركة للعالم كلّه.
 ١٠- الذهاب إلى الناصرة، بحسب أمر الملاك أيضًا للقديس يوسف النجّار، حيث عاد القديس يوسف إلى بيته وعمله هناك.
* تعليقات وتوضيحات:
جاءني مجموعة استفسارات حول الموضوع يسعدني أن أجيب عليها..
 حول النقطة الأولى: 
 البعض يتساءل لماذا نفترض أنّ ميلاد المسيح كان ليلاً.. والإجابة أنّنا نفهم هذا من إنجيل معلّمنا لوقا الأصحاح الثاني، عندما جاء الملاك للرعاة وهم يحرسون حراسات الليل (لو2) فليس من المنطقي أن يولَد المسيح بالنهار، ثم ينتظر الملاك عِدّة ساعات ليأتي ويبشِّر الرعاة في منتصف الليل!!
هناك من يتساءل من أين عرفنا أنّ ميلاد السيّد المسيح كان في فصل الشتاء.. والحقيقة أنّ هذا تقليد مُسلّم منذ بدء المسيحيّة وموجود في جميع الكنائس التقليديّة.
 تقول بعض الآراء أنّ رعي الأغنام يتمّ في الصيف وليس في الشتاء.. ولكن الحقيقة أنّ رعي الأغنام هو عمل منتشر جدًا في أرض إسرائيل، ولا يتوقّف طول العام صيفًا أو شتاءً، والأغنام التي تتربّى في الشتاء هي التي يتمّ تجهيزها لموسم الفصح الذي يأتي في فصل الربيع.
 
 حول النقطة الرابعة:
يتساءل البعض، لماذا وَضعتُ في ترتيب الأحداث زيارة المجوس للطفل يسوع المولود بعد ذهاب العائلة المقدّسة للهيكل؟ وليس قبل ذلك؟ والإجابة أنّه في نفس يوم زيارتهم للطفل يسوع مساءً، جاء الملاك ليوسف في حلم وأمره بالذهاب لمصر، فقام في نفس الليلة وسافر لمصر.. فإذا كانت زيارة المجوس قبل ذهاب العائلة المقدّسة للهيكل فمتى سيذهبون للهيكل؟!
 نلاحظ هنا نقطة هامّة؛ أنّ العائلة المقدّسة لا تستطيع المكوث في بيت لحم لفترة طويلة، إذ ليس لهم فيها بيت خاص بهم، أو عمل يمكن أن يكون موردًا للرزق.. فبيت يوسف وعمله في الناصرة، وهم ضيوف في بيت لحم.. بالتالي لم يكُن من المناسب أن يمكثوا في بيت لحم مُدّة أكثر من الأربعين يومًا سوى أيّام قليلة.. بل الطبيعي أن يغادروا إلى الناصرة في أسرع وقت بعد تقديم المسيح للهيكل وتتميم شريعة التطهير.. ولا يوجَد أي سبب منطقي للمكوث في بيت لحم لمدّة أكثر من ذلك.
 هذا يقودنا بسرعة إلى التفكير في أنّ زيارة المجوس، التي تمّت في بيت لحم، لابد أن تكون في خلال هذه المدّة، وليس بعد سنة أو سنتين.
 يستشهد البعض بكلمة "الصبيّ"، التي ذُكِرت عن الطفل يسوع عندما زاره المجوس، ويقولون أنّ هذا يوحي بأنّه لم يكُن طفلاً رضيعًا.. وأن زيارة المجوس قد حدثت بعد أكثر من سنة من ميلاد السيّد المسيح.. ولكن الحقيقة أنّ كلمة "الصبي" هي كلمة تصف أي طفل مولود ذَكَر، وقد قيلت عن الرب يسوع عند ختانه بعد ثمانية أيّام (لو2: 21)، وعندما دخل الهيكل بعد أربعين يومًا (لو2: 27)، وقيلت نفس الكلمة عن يوحنا المعمدان في اليوم الثامن لميلاده (لو1: 59، 66، 76).. 
 
مغادرة العائلة المقدّسة لبيت لحم كانت باتجاه أرض مصر، ثمّ عادوا من مصر إلى الجليل، بدون المرور على منطقة اليهوديّة (مت2: 22)، بل عَبر طريق شاطئ البحر المتوسّط. وهناك مغارة على جبل الكرمل بالقرب من حيفا عل البحر المتوسِّط، مكثت فيها العائلة المقدسة بعض الوقت، بحسب التقليد المحلّي للمنطقة، قبل اتجاههم لمدينة الناصرة.
 
 حول النقطة الخامسة:
 هذه من أكثر النقاط المثيرة للتساؤلات بسبب معلومات غير دقيقة أو خاطئة كثيرة تمّ تلقينها لأجيال متتابعة، دون قصد، بخصوص زمان حضور المجوس ومكان لقائهم بالمسيح.
نحن في البداية أمام عِدّة حقائق إنجيليّة: المجوس حضروا لبيت لحم وليس الناصرة (مت2: 4-12) - المجوس وجدوا المسيح في بيتٍ وليس في مذودٍ (مت2: 11) - زيارة المجوس جاءت بعد إتمام طقوس التطهير في الهيكل (لو2: 22-38) - أنّ العودة للجليل إلى مدينتهم الناصرة جاءت بعد أن تمّموا كلّ الطقوس (لو2: 39).. ونلاحظ هنا أنّ القديس لوقا لم يذكر حادثة قتل أطفال بيت لحم ولا الهروب لأرض مصر، وقد يعني هذا أنّ المدّة التي مكثتها العائلة المقدّسة في أرض مصر لم تكُن مدّة طويلة، فأغفلها وهو يسرد الأحداث. مع الوضع في الاعتبار أنّ المرجَّح أنّه استقى معلوماته بالتفصيل من السيّدة العذراء شخصيًّا..
 نحن أيضًا أمام حقائق تاريخيّة: أنّ هيرودس الكبير مات في ربيع سنة ٤ قبل الميلاد، وهذا ما جاء في كلّ المراجع التاريخيّة، ومرفق رابط لأحدها (https://en.wikipedia.org/wiki/Herod_the_Great) - أنّ السيّد المسيح وُلِدَ في أواخر عام ٥ أو أوائل عام ٤ قبل الميلاد، وهذا ما جاء في معظم المراجع وأبحاث العلماء والدارسين، ومرفق رابط لأحدها (https://bible.org/article/birth-jesus-christ) وأيضًا (https://st-takla.org/.../01.../050-When-Was-Jesus-Born.html).
الأرجح بعد فهم الحقائق السابقة أنّ زيارة المجوس هي كانت بعد ٤٠ إلى ٤٥ يوما من الميلاد، في أحد المنازل ببيت لحم.
 بخصوص موعِد ميلاد السيّد المسيح وحياته.. فقد تمّ تحديد ذلك تبعًا لتاريخ الدولة الرومانية، التى كانت تسيطر على الأمة اليهودية فى ذلك الوقت، ومنها حدّد المسيحيون تاريخهم ابتداءً بمولد السيد المسيح.. وكان التقويم الرومانى يبدأ بتاريخ تأسيس مدينة روما..
بعد انتهاء الاضطهاد الروماني حاول المسيحيون أن يجعلوا بداية عدّ السنين من سنة ميلاد المسيح، ونجحت دعوة الراهب الروماني «ديونيسيوس اكسيجوس» إلى ذلك، وهو راهب من أوربا الشرقيّة عاش في روما.
 
بدأ العمل بالتقويم الميلادي منذ عام ٥٣٢ «رومانية»، واعتَبر ديونيسيوس أنّ المسيح وُلِدَ في عام ٧٥٣ لتأسيس روما.. ولكنّه للأسف أخطأ في أربع سنوات.. وللاستدلال على صِحّة التاريخ، نذكُر أنّه حسب إنجيل القديس لوقا فإنّ السيد المسيح بدأ خدمته الجهارية التبشيرية في السنة الخامسة عشرة من حكم «طيباريوس قيصر» الذى حكم الدولة الرومانية سنة ٧٦٥ رومانية ، حيث كان عمر السيّد ثلاثين سنة وقتئذ، فيكون ميلاده سنة ٧٥٠ رومانية أي ٤ ق. م. وبعض المؤرّخين القدامى أيضًا يؤكدون أنّ ميلاد السيد المسيح كان قبل مقتل الإمبراطور الرومانى "يوليوس قيصر" باثنتين وأربعين سنة، وهو الحدَث الذي وقع في عام ٧٩٢ رومانية، فيكون ميلاد الرب يسوع أواخر عام ٧٤٩ رومانيّة، أو أوائل سنة ٧٥٠ رومانية، أي أربع سنوات قبل التاريخ الذي وضعه ديونيسيوس.
 
* حول النقطة السابعة:
 + السؤال المتكرّر أنّه إذا كان المجوس قد أتوا بعد ميلاد المسيح بأقلّ من شهرين، فلماذا يقتل هيرودس الأطفال الذكور حتّى سِنّ عامين؟ والإجابة في تقديري وفي تقدير الكثير من الباحثين أنّه فعل هذا من فرط انزعاجه عندما سمع من المجوس أخبار ميلاد ملك اليهود الجديد، فحاول أن يتأكّد تماما أنّه قضى على الطفل الرضيع، فأمر بقتل جميع الأطفال الذكور حتى سِنّ سنتين ليضمن بكلّ تأكيد أنّه قتل المسيح وسطهم، مع أنّ المسيح وقتها لم يَكُن قد أكمل شهرين.. كما لا ننسى أنّه كان شخصيّة شرسة وعنيفة، وقتل ثلاثة من أبنائه الأربعة قبل موته. (راجع الرابط في النقطة السابقة).
 بخصوص عدد الأطفال، فيرجِّح جميع الدارسين أنّهم كانوا بين عشرين وستّين طفلاً، ولم تُذكَر حادثة قتلهم في أيّ مرجع سوى الإنجيل.
 
 حول النقطة التاسعة:
هذه أيضًا نقطة مثيرة للتساؤلات، بسبب تداول بعض المعلومات غير الموثّقة حول المدّة التي مكثتها العائلة المقدّسة في مصر..
 هناك حقيقة تاريخيّة، وهي موت هيرودس في بداية ربيع عام ٤ قبل الميلاد (مارس/إبريل).
السفر من بيت لحم إلى مصر يستغرق حوالي سبعة إلى عشرة أيّام.
التحرك داخل مصر غالبًا ما يكون عن طريق نهر النيل وفروعة التي كانت كثيرة في ذلك الوقت.. ففروع النهر كانت حتّى القرن التاسع عشر هي بمثابة الطرق في أرض مصر، وينتقل عن طريقها الناس والبضائع وكلّ شيء. مع ملاحظة أنّ المناطق المأهولة بالسكان في مصر ليست في مساحات شاسعة، بل فقط حول نهر النيل وفروعه.
 
 بخصوص المخطوطة أو البرديّة المُكتَشَفة حديثًا والتي تذكر أنّ العائلة المقدّسة مكثت في مصر نحو ثلاث سنوات ونصف، فالحقيقة أنّها هي المخطوطة الوحيدة التي تقول هذا، ولكننا لا نعرف كاتبها أو مدى صحّة ما تقوله.. والواقع أنّ ما تذكره البردية من الصعب تصديقه لأنه يصطدم بحقائق تاريخية وإنجيلية أخرى كثيرة.. وتعليقي عليها هو:
١- معلومة الثلاث سنوات ونصف بدأ ترديدها منذ حوالي خمسٍ وعشرين عاما، وقبلها كنا نسمع أنّ العائلة المقدّسة مكثت عِدّة شهور.. وكلّها معلومات غير مؤكّدة.
٢- بحسب المنطق لا داعي للوجود في مصر بعد موت هيرودس، الذي حدث في ربيع عام ٤ قبل الميلاد.
  ٣- القديس لوقا في إنجيله أغفل الذهاب لمصر، وقال أنّهم عادوا لمدينتهم الناصرة بعد أن تمّموا كلّ شيء، وهذا معناه أن الذهاب لمصر كان رحلة سريعة انتهت بموت هيرودس، فلم تأخذ وقتًا كثيرا. وكما ذكرتُ من قبل أنّ القديس لوقا عرف من السيدة العذراء الكثير من التفاصيل الدقيقة ودوّنها، ولكنّه لم يذكر شيئًا عن رحلة مصر.
٤- من الناحية العِلميّة، لا نستطيع أن نعتمد على مخطوطة هنا أو هناك، لأنّ كاتبيها لم يكونوا شهود عيان.. وأحيانا نجد في المخطوطات غرائب ليس لها أيّ أساس من الصحّة.
٥- من الطبيعي أن يوجد في المصريين مَن يحاول تطويل المدّة ليفتخر بهذا كمصري.. ولكنّ أولاد الله يهمهم بالأكثر توضيح الحقيقة، وليس الافتخار من هذا النوع.. فافتخارنا الأعظم هو أنّنا أولاد الله الآب وأعضاء في جسد المسيح وهيكل للروح القدس.
٦- ترديد الكلام بدون فحص هو ثقافة تحتاج إلى تغيير.. فليس من المفيد أبدًا ترديد أيّ شيء نسمعه بدون تدقيق في صحّته.
 ٧- الأماكن التي عبرت عليها العائلة المقدّسة هي أماكن مباركة بحسب تقليدنا القبطي المحلّي.. ولكنها لا تحتاج لسنوات للمكوث فيها أو العبور عليها، بل فقط لأيّام أو أسابيع..!
٨- أنا لا أتعرّض في حديثي عن خَطّ سير الرحلة، فهذا موضوع آخَر، بل أقول أنّ مدة الإقامة بمصر لم تكن طويلة، لأن هيرودس مات في أبريل في حين أن الهروب لمصر يُرجّح أنّه حدث في أوائل فبراير..
كلّ عام والجميع بخير وفرح وسلام،،