حمدي رزق
صادفت زيارة عائلية خاطفة لبلدتى الطيبة «منوف»، أولى ليال شهر طوبة (٩ يناير)، وكانت لَيْلَة لَيْلاَء طَوِيلَة حالكة السَّوَادِ، شَدِيدَة البرودة، تصطك منها الأسنان، ليلة مثلجة، تحس أنك فى ديب فريزر حجم عائلى!.
شوربة العدس لها وجاء، عدس طوبة مقرر عائلى، عدس طوبة ولا مرق أمشير، المرق صار عزيزًا، عادت بى الذكريات دافئة رغم قسوة البرد، ورثت عن الوالد، الله يرحمه، خشية برد طوبة، وحفظت عنه كثيرًا من الأمثال الموحية بالبرد.
«طوبة أبوالبرد والعقوبة»، و«فتى يا طوبة ما بلّيتى عرقوبة»، والأشهر شعبيًّا «طوبة تخلى الشابّة كركوبة»، تجد الشابة منحنية كالعجوز من قسوة البرد، وطوبة برد أعجوبة، أقسى من البرد السيبيرى، معلوم أن المرتفع الجوى السيبيرى عادة ما يزور البلاد فى طوبة.
مثل شائع يقول: «أبرد من مية طوبة»، فى طوبة تكون المياه أبرد منها فى أى شهر آخر، فينسحب المثل على كل كائن بارد الطبع، وللأمانة الناس فى الريف دافئة المشاعر ما يخفف من قسوة البرد.
المصريون يعالجون الهَمَّ بالنكات، والبرد بالأمثال، ومن الأمثلة الدالة: «الاسم لطوبة والفعل لأمشير»، معلوم شهر طوبة أول البرد الحقيقى، برد أمشير يختلط برياح تجعله محتملًا بعض الشىء، آخر موسم البرد.
عادة برد طوبة لا تصحبه أمطار، لكن أمشير قصة أخرى «أبوالزعابيب الكتير.. فيه النهار يزيد ضل حصير»، و«طوبة تقول لأمشير: إدينى عشرة منك أخلى العجوزة جلدة والصبية قردة»، ويقصد عند العامة بـ«برد العجوزة»، وهى أيام عشرة فى ابتداء أمشير، هى أبرد أيام السنة جميعًا.
طوبة وأمشير من الشهور المصرية القديمة المرتبطة بنجم الشعرى اليمانى Sirius واستخدمها المصريون القدماء فى الزراعة والحصاد، وقد تبعها أقباط مصر فى عصور لاحقة، وحملت هذه الشهور أسماء مصرية قديمة (هيروغليفية)، ثم حُوِّرَتْ إلى القبطية.
حار جاف صيفًا دافئ ممطر شتاءً، قاعدة مناخية عمرت طويلًا، أطاحها برد طوبة، حتمًا ولابد من وصف جديد لمناخ مصر، بات ضروريًّا ومستوجبًا، ليس من قبيل رفاهية المتفكهين، أو من قبيل اللغو غير السياسى، أو ملء المساحات الفاضية على المقاهى، أو تزجية فراغ لناس فاضية.
الثابت يقينًا وعلى رؤوس الأشهاد أن المناخ المصرى تقلب تمامًا، صار متقلبًا، وأصبح مزاجه متعكرًا، وأرجو ألّا يستنيم خبراء الأرصاد طويلًا على هذه القاعدة، لا يودون المساس بها وكأنها من الثوابت المرعية، مع أن العالم بأسره يغير نظرياته المناخية.
لسنا استثناء، ويستوجب الأمر أن نذهب سريعًا إلى قراءة جديدة لمؤشرات المناخ المصرى خلال العقد الأخير على أقل تقدير، هذا من قبيل الأمن القومى، الذى يرتهن بالأمن الغذائى، فضلًا عن معايش الناس، وطبيعة اللباس، وشيوع الأمراض، ومتوالية الأوبئة القادمة من خارج الحدود فى بلد تلفه صحراوات قاحلة ذات مناخ قارى.
إذا جاز القول مناخيًا، القاعدة حاليًا، جو خانق صيفًا، سيبيرى مثلج شتاء، القاعدة القديمة اللطيفة حار جاف صيفًا اسْتَنَّها علماء، وتغييرها سيقوم عليه علماء، لا هى معادلة مقدسة ولا اكتسبت قداسة.. واسألوا طوبة!.
نقلا عن المصري اليوم